ولجنا الى حديقة الأوزون بالخرطوم..المكان الذي اختاره الأديب محمد إبراهيم الشوش..عمامة بيضاء وجلباب ناصع البياض وشلوخ مطارق ورجل يفيض رقة حينما يتحدث عن الذكريات ..في بعض مراحل الحوار كان يداري دموعه بطرف عمامته ثم يمسحها بسرعة..بدأ لي في البداية وهو يختار مواصفات فنجان القهوة مثل انجليزي يستمتع بمرحلة التقاعد حينما غرقنا في التفاصيل وجدت الشوش رغم الغربة والترحال وكيد السياسة يحتفظ بروح ابن البلد الأصيل..معاً إلى حوار استصعب علينا إعادة تحريره ! فتعابير الشوش وصراحته لا تقبل التدخل الجراحي، ومن الصعب على التلميذ ان يدقق في أوراق استاذ بقامة محمد إبراهيم الشوش... فإلى مضابط الحوار .. * في محطة اخرى استرجع بك شريط الذكريات ونرجع إلى عطبرة والحوش الكبيروالأسرة والوالد الشوش ماذا أخذت منه؟ عطبرة مازالت في الذاكرة، وأهلها الطيبين، وفيها أيامنا الأولى وذكرياتنا الجميلة والاسرة وكل الاشياء السودانية السمحة ،أما الوالد فكان شيخ البلد وكان المثال والحكمة والمدرسة وانا اخذت منه أشياء كثيرة جداً فهو كان شيخ مدينة عطبرة وله تأثيره، كانت لهم طريقتهم في الحياة آنذاك وفى كل يوم نتعلم منه شيء، وأنا عرفت بعدها عندما استرجعت بذاكرتي تلك الأيام كيف تعلمنا تلك المعاني العميقة التي كانت في حياتهم، وهم مدرسة كاملة أمامنا ولدي نماذج كثيرة جداً منها كيف نتعامل مع ظروف الحياة ولماذا كان يغضب أحياناً من شيء ما !! ثم يفسر لنا الأسباب .كنا نعيش مثل الآخرين في الحوش الكبير، ويأتي إلينا الضيوف القادمين من الشمالية وهذا منحنا فرصة قبول الآخر والتعايش معه . أين السيدة والدتك من هذه السِّيرة؟ اذكر موقفاً لأبي أيضاً عندما توفيت والدتي بحثنا عنه ولم نجده !! وبعد فترةٍ وجدناه فى غرفة قصية يغالب دموعه! وهو يبكي لفقدانه شريكة حياته ووالدتنا ...فعرفت كم هو حنون وكم هو وفي لزوجته، ولكن هكذا كنا نحن السودانيين نحتفظ بمشاعرنا دوماً تجاه زوجاتنا فى صمتٍ ولا نعبر عنها إلا نادرًا . على ذكر التعايش هذا يرجعنا الى لندن والمثقفين أغلبهم تزوجوا من أجنبيات ما سبب هذه الظاهرة ؟ هل هو افتتان بالغرب ام ماذا؟ الزاوج من الاجنبيات اعتقد انها كانت مصادفة في نظري ونتاج طبيعي للحياة التى كنا نعيشها فى الغرب وما كانت عن فكر مسبق واعداد من كل الذين عاشوا في اوربا تلك الفترة من الزمان فهي مثل اي شخص يختار فتاة للزواج حتى لو كان في حي أو حلة فى السودان بحسب الظروف التى هوفيها لذلك أقول: إن ظروفنا هي التي جعلت من ذلك الاختيار والزواج من أجنبيات ممكن وسهل، ونحن كنا في ذلك الوقت ما كان عندنا ادنى إحساس بأن هناك اختلاف بيننا وبين الاوربيين فقدراتنا كانت كبيرة على قدم المساواة مع تلك المجتمعات بأفكارنا وتعليمنا ووعينا، فالبنت الاوروبية التي نقابلها وندرس معها ونمضى معها وقت طويلاً و نحن بيننا أشياء كثيرة جداً مشتركة فى القراءة مثلاً والمناقشة للفكر والأدب، وكنا نحس ذات الإحساس، ولكن نحن لدينا عفويةً وعمق أيضاً قد يختلف عن تلك المجتمعات، على العموم لم تكن تلك تجارب موفقة لكثير منا. الطيب صالح لماذا كان إستثناءاً فى تجربة الزيجات باجنبيات ..ظل محتفظاً بالوفاء لزوجته، والمنتوج الاجتماعى من زواجه ممثلاً فى بناته الثلاث ، وانقطع لحد كبير عن البلد ...كيف تري تجربته وأنت إنسان لصيق به ؟؟؟ طبعاً من الصَّعب أن تعرف مابين الزوج وزوجته ..الطيب صالح عندما إختار زوجته هذه لم يكن هذا إختياره الأول ...فاول اختياره كان لفتاة بريطانية تعمل بالتمريض وكان بينهم علاقة قوية جدًا ..ولكن الطيب رفض الزواج بها لسبب بسيط جدًا هو قوله إنه لايتحمل مسئولية أخذها لبلدٍ لا تناسبها وهي أيضاً رفضت لأنها كانت صادقة مع نفسها بعدم قدرتها فى العيش ببلاد أخرى ..وايمانها بانه سوف يرجع لأهله وجذوره ويعيش بينهم ..ولذلك انفصلا بهدوء ...ولحسن الصدف تعرف على زوجته الانجليزية أثناء عمله باذاعة البي بي سي وكانت منتجة بالاذاعة لكنها كانت تتميز بطيبة لا تتميز بها الفتاة السابقة، وليس لها مايسمى بارتباطات أسرية كبيرة لذلك كان إرتباطها بالطيب صالح قوياً جدًا كشخص فقط والطيب صالح من الشخصيات التي لا يمكن تحت أي ظرف أن يقوم بعملية فيها أي نوع من القسوة الممكنة، وكان يعتقد إنها تعتمد عليه إعتماداً كلياً وان الخروج عن هذا الارتباط غير ممكن ! والغريب لم يكن إرتباطاً عاطفياً وهذا قد يكون غريباً لحدٍ ما، ولكن استمر في هذه العلاقة التي فيها كثير جدًا من المودة والرحمة، ولكنها خالية من المحبة ..واستطاع أن يعيشها وكانت حياته كلها خارج نطاق هذا الزواج فهمه وأدبه وفكره وهذا ليس لأن زوجته غير متعلمة بالعكس هى متعلمة ومنتجة وذكية ومازالت مثقفة ثقافة عالية جدًا ولذلك لاتحس بينهم ذلك الإرتباط لكنها كانت تقوم بواجبها كزوجة . إذًا هذا البوح الشفيف الذى سردته لو عكسناه على تجربة محمد إبراهيم الشوش فى لندن وأول تجربة عاطفية له فى تلك البلاد التى تموت من البرد حيتانها ونحن نؤرخ لتلك الايام ..ماذا تحكي ؟. ابتسم وهو يتكيء على ذاكرته وقال ..من الصعب جدًا ان أذكر ذلك ! ولكن بطبيعة الحال لم يكن زواجي ذاك هو أول تجربة عاطفية لي ..كان إرتباطي الأول بفتاةٍ من ملايو (الآن ماليزيا) استمر هذا الارتباط لفترةٍ طويلةٍ جدًا ..ومعرفتى بهذه البنت كانت بدايتها غريبة! ونهايتها أغرب لأنها إختفت فجأة ...وهي كقصة أقرب للخيال، وهذا موضوع طويل ..والحديث عنه يصعب تجزئته وهذه القصة الآن هي مشروع كتاب أتردد فى نشره ...لكن عندما تعرفت على زوجتي الانجليزية كانت تدرس بجامعة لندن وتعرفت عليها عن طريق ترددي على المكتبة، حيث التقيت بها وتعرفت بها ..ولما شعرت بأنها مهتمة بالأمر والانجليز يأخذون الأمر بجديةٍ بعكسنا نحن وقال ضاحكاً : (نحن ناس مرات سبهلل ساي) ففي لحظة أذكرها ونحن في حديقة (الهايدبارك) فتحدثت عن مستقبلها وحياتها...فقلت لها هل مشكلتك اننا نتزوج ...فصمتت ..فقلت لها إذًا اعتبري نفسك مخطوبة ..وهكذا حسمت الأمر ..وتعرفت على والدها وهو ضابط في البحرية وهو رجل مرح ولديه مغامرات كثيرةً ومنفتح ،ووالدتها امرأة متدينة لهذا لم تكن لدَّي مشكلة مع أسرتها ..المشكلة كانت في أسرتي وتقبلها لزواجي من أجنبية ...وكيف أقنع الوالد منها لم يكن بالإمكان الزواج دون علمه ، لأنه أيقنت ان والدي سيغفر لي كل شيء إلا الزواج دون علمه !! لذلك جئت للسودان واوكلت المهمة لأخي الأكبر، ورميت عليه حملي وتركت كل غضب الشوش يقع عليه، وأنا لزمت الصمت . هل بارك الوالد الزيجة الاوربية؟ بعدها مشت الأمور كما أريد، وقام والدي بكل العرس وتزوجت بالخرطوم هنا ببيت محمد طه إسماعيل، وهذا هو تاريخ زواجي الذي كان ككل زواج السودانيين بسيرة وجاءت زوجتي الانجليزية ومعها أختها ..وأذكر ان الفنان إبراهيم عوض قد غنى لنا وهو في بدايته ..وأهلنا جاءوا من عطبرة.. وتجربتنا الزوجية استمرت لاكثر من 15 سنة ولدي بنتين ممتازات لأبعد الحدود وهما «عايدة و صفية» وهما الآن في لندن ومتزوجات . ننتقل بك الى محطة الدوحة الاولى ...وكيف تم تأسيس مجلة الدوحة ؟؟؟ الدوحة ..حتى الآن ظلت أجمل ذكرياتى ...حتى أفسدها قبولي للعمل كمستشار إعلامي بسفارة السودان ..أولاً عندما ذهبت الى الدوحة لاول مرة كان كل طموحات دولة قطر ان تعمل مجلة على المستوى العربي والتي أصدرها أحمد زكي رحمه الله، وكانت تربطني به علاقة قوية وأحمد زكي لم يكن أديباً فقط..أحمد زكي كان رجل علم وعالم وقادر على النجاح واستطاع ذلك لانه عندما أصدر مجلة العربي فى البداية اقنع المنتجين بأن صور الأمراء وأخبارهم والاشادة على المجلة لا تصنع صحافة ناجحة..لذلك كان صريحاً وتمت الموافقة على شروطه لهذا نجحت مجلة العربي . اذن بدأتم تجربة مجلة الدوحة وعينكم على مجلة العربي؟ كانت الفكرة الرئيسية أن نخلق في قطر مجلة ثقافية على مستوى العالم العربي وبدأت في العمل دون ان تتكامل لنا أي من شروط العمل ..وأذكر أننا بدأنا بشقتي في قاعة الجلوس كمكتب مع مجموعة طيبة من الناس هم محمد أبوطالب الفنان التشكيلى المعروف بمصر وعبد القادر حميدة وانضم إلينا مجموعة من السودانيين أيضاً وكنا نجلس ونتناقش حول الأدب والفكر وخلقنا مجلة الدوحة في إطار أسري ومجلة الدوحة قامت على أسس ..وان كل مقال لابد ان يكون مرتبطاً بحدثٍ آني ..وكان لدينا مواضيع طازجة من الغلاف حتى الغلاف ..وكنا ندرك ان عهد المجلات الرصينة انتهى مثل الرسالة وغيرها وان القاريء يريد ان يشارك وهذه ميزة لمجلة العربي التي ربطت القاريء بها، واصبح مشاركاً عبر المواد التي يرسلها للمجلة ورسائل القراء كانت لها هيئة تحرير والمسابقات كانت كثيرة جدًا وهي ربطتنا بالقراء أيضاً .. من الذي رشحك لمنصب رئيس تحرير مجلة الدَّوحة؟ الطيب صالح هو الذي اقترحني لهذا المنصب وهوكان مديرًا للاعلام .. وكثيرون جدًا تهيبوا من هذا المنصب حينها منهم رجاء النقاش . هل قبلت العرض دون تردد؟ في ذاك الوقت أنا كنت في السودان، وحينها لم تكن الأمور بيني وبين جعفر نميري على مايرام لحديث وصل إليه بالخطأ ..وعندما عرضت على الوظيفة فضلت الذهاب لقطر وكان ذلك التحدي.. ماهو سر نجاحكم في صناعة مجلة محترمة مثل الدوحة؟ . نجاحنا له سببه ربما لا يعلمه الآخريين القطريين دون الآخرون لا يتدخلون في تفاصيل العمل من يسلموه وظيفة يتم تفويضه ولا يتراجعون عن قراراتهم. ألم تتعرض لأي ضغوط سياسية للتأثير على مجلة الدوحة؟ اذكر هنا موقفاً للمجلة في فترة توقيع الرئيس المصري أنور السادات لاتفاقية كامب ديفيد وذهابه الى اسرائيل قامت الدنيا ولم تقعد ..وكان على رأس المعارضة العربية كلها الرئيس العراقي الراحل صدام حسين والذى رأى فيها فرصةً لسحب البساط من مصر، ولابد من الضغط على دول الخليج حتى يتولى قيادة العرب ولذلك أول حاجة عملها هو الضغط على مجلة العربي الواسعة الإنتشار في الخليج لتأليب الرأي العام ضد مصر ..لأننا نحن الوحيدين لم ندخل في حملة الهجوم على مصر ..ونحن حقيقةً لم نؤيد السادات ! لكن كنا ضد الحملة على مصر لأن السادات تصرف بسذاجةٍ سياسيةٍ وهنالك فرق بين مصر والسادات ولهذا لم نريد إفساد علاقتنا مع مصر كشعب ودولة ...واذكر اننى رفضت كرئيس تحرير مقال لرجل له نفوذ كبير جدًا في قطر تحدث فيه باساءة عن مصر ..فلجأ صاحب المقال لوزير الاعلام الذي كتب على المقال ينشر ولكنني اصررت بالرفض وقلت له إن الوزير ليس رئيس تحرير ..ووصل الأمر للوزير ولكن كما قلت ان القطريين لا يتراجعون عن قراراتهم وتم تنفيذ قراري وهذا ما حصل مع وضاح خنفر في قناة الجزيرة حيث تعرضوا لضغط كبير من الخارج لإيقافه ولكنهم رفضوا ذلك.