قلم الصحفي عادة ما يرتبط بعقله وقلبه معاً رصداً ومتابعة لحدث ما، وتعليقاً عليه وفق درجة الإحساس به، لذلك كثيراً ما يجد الكاتب الصحفي نفسه يتناول أمراً لم يكن ضمن ما خطط له، وذلك نتيجة للأحداث المتغيّرة والمتلاحقة، فالأحداث تتخطف أقلام الصحفيين بدرجة قوة الحدث. سقوط طائرة الأنتينوف العسكرية والذي أودى بحياة ثلاثة عشر من أبنائنا وأصيب جراءه تسعة، غيّر زاوية الكتابة تماماً، وأدار القلم نحو الحدث المؤلم الذي نتمنى أن يكون الأخير، ونحن نعلم أنه لن يكون كذلك، طالما كانت هناك طائرات «أنتينوف» روسية وقديمة الصنع، تطير في سموات بلادنا. نؤمن بالموت، ونوقن بأنه لكل أجل كتاب، ونعرف تماماً أن الموت في مثل حالة سقوط طائرة- عسكرية كانت أم مدنية- هو استشهاد، ويكون معنى الاستشهاد أعمق وأبلغ إذا كانت المهمة عسكرية أو في سبيل الوطن، وليس أعظم من ذلك كله إلا الاستشهاد في سبيل الله لرفع راية التوحيد أو حماية وصون راية الإسلام. لكن.. ومع ذلك كله فإننا نرى أن (بقايا) طائرات الأنتينوف التي تحلق في سماء بلادنا، وتنقل القادة وكبار الضباط، والجنود، وعامة الناس، نرى أنها ليست أكثر من (نعوش طائرة)، الفرق بينها وبين النعش الثابت، أن الأخير يمكنك أن تتعرف فيه على الميت.. أما تلك الطائرات.. فلا. لا نحسب أن دولة ما، ومنذ أن بدأت صناعة الطيران في العالم، ومنذ أن تم اعتماد الطائرات كوسائل للنقل الجوّي (السريع)، لا نحسب أن دولة ما، فقدت من بنيها ما فقده السودان، وقد حصدت هذه الطائرات المشؤومة أرواح قيادات رفيعة- لا نستكثرها على خالقها- لكننا لم نتعلم من الدروس المتتابعة، وإن تعلمنا فإننا لا نطبق ما فهمناه على واقعنا. نحن في انتظار قرار جريء وشجاع تُمنع بموجبه كل طائرات «الأنتينوف» وما شابهها من الطيران، مهما كانت نتائج ذلك القرار، لأن أرواح أبناء هذا الوطن أغلى بكثير من المغامرة بها على متن طائرات قديمة متهالكة لا تقوى على تكملة رحلة ذهاب وإياب، إذ بات الراكب فيها (مفقود) والخارج منها (مولود). حتى لو افترضنا أننا في حالة (عمليات عسكرية) في بعض المناطق.. فإن سرعة التحرك على الأرض أمضى وأكثر فائدة، حتى وإن كانت على ظهور الخيل والبغال والحمير وغيرها. اللهم ارحم شهداء طائرة «الأنتينوف» الثلاثة عشر.. ونسألك أن تتقلبهم القبول الحسن وأن تغفر لهم، وأن تغفر لنا وأن تشفي المصابين وتعجّل بإلباسهم لباس الصحة والعافية. اللهم إنا نسألك أن تلهم متخذي القرار أن يتخذوا القرار الأصوب الذي يمنع مغامرات الموت ويوقف سيل الرحلات المتتابعة إلى الآخرة.