بدأ الشاب حديثاً لطيفاً لا يخلو من قفشات مع موظف الكاشير في مطعم ماكدونالدز مطار القاهرة، موظف الكاشير اندهش كثيراً لأن الخرطوم ليس فيها مطعم لماكدونالدز، وأضاف الشاب وهو سوداني قائلاً: وليس فيها مطعم لكنتاكي ولا لهارديز، وحينما أخبره أن المقاطعة الأمريكية للسودان هي السبب في عدم دخول هذه السلسلة من المطاعم العالمية الشهيرة إلى الخرطوم..! قال موظف الكاشير.... بس ازاي.. هي أمريكا مالها والأكل.. أنا موظف لدى أمريكانا وهي شركة كويتية وليست أمريكية..! وأردف قائلاً: لكن عندكو بيبسي وكولا...؟ قال الشاب السوداني نعم، ولكنها بنكهة سودانية..! أنهى الشاب معاملته وطلب ما يحتاجه من طعام وطلب العناية بتغليفه، لأنه سيحمله معه على الطائرة..! عندما جاء دوري ورأى الشيب بارزاً، قال: وأنت يا حاج عاوز الأكل سفري برضو..! قلت لا محلي..! قال: أول مرة حد يطلب مني وجبات ماكدونالدز سفري للسودان.. قلت: إنها العولمة..! وأردفت قائلاً: المسافة من هنا إلى الخرطوم لا تزيد عن ساعتين وربع الساعة..! قال: يعني الجماعة حيتعشوا في السودان من عندنا.. عمار يامصر..! وضحكنا..ِ لقد غزت خدمة التوصيل العالم، وأصبحت مصر متفردة في هذا المجال، فكل شئ تحتاجه يصلك بواسطة الهاتف وأنت مستقر في منزلك.. الطعام الشراب الدواء العطور.. الملابس الصحف الكتب أفلام الفيديو الغسيل الكوي.. الحلاقة.. الحجامة.. ودخلت البائعات الصينيات في القاهرة هذا المجال، ولكن عبر الأبواب، وتقدم لك عرضها من الساعات من مختلف الماركات العالمية المقلدة.. وبسعر زهيد وكذلك الموبايلات الصينية والمقلد من الماركات العالمية، هذا غير الأدوية الصينية من الأعشاب الطبية.. ومع العولمة والانترنت أصبح التسويق عبر الشبكة العنكبوتية متاحاً حول العالم، وحتى هذه الخدمة لا تتوفر عندنا بسهولة لأنها تعتمد على بطاقات الائتمان، وهذه أيضاً مع المقاطعة الأمريكية غير متاحة في السودان.. ولكن كثيراً من القادرين يتسوقون عبر النت ويشترون ما يحلو لهم وهم جلسون في بيوتهم أو مكاتبهم، ويبتاعون آخر صيحات الموضة في كل ملبس أو اكسسوارات وساعات وموبايلات.. وعلى الطرف الآخر، اي من السودان، فإن القادمين إلى القاهرة من الخرطوم سواء كانوا مصريين أو سودانيين فإن القاسم المشترك لما يحملونه معهم في الطائرة هي اللحمة السودانية التي تجد سوقاً رائجة في مصر.. وقد استشرت ظاهرة نقل المخ « الطايوق» عبر الطائرة من الخرطوم إلى القاهرة، ولكن تنبه موظفو الجمارك مكتشفين كمية من«المخ» وتمت إبادتها بمحضر رسمي، ولكن يُسمح بدخول اللحمة إذا كانت بكميات معقولة، وليس بغرض بيعها والتكسب منها..! وقد وصل سعر كيلو الضأن في مصر إلى نحو مائة جنيه..! ومع اللحمة فهناك الحناء وهي من الهدايا المرغوبة، وكذلك الجبنة المضفرة والكركدي والصمغ العربي والشطة والشاي، وخاصة شاي سفاري وابوغزالتين وغيرهما.. ولعل منتجات النصر وتعبيتها للكركدي والصمغ والتبلدي والدوم والعرديب والدخن وغيرها من المنتجات السودانية يستحق الاشادة لحسن التعبئة وجودة المنتج، ولا أقصد الدعاية للنصر، ولكن خلال رحلاتي المتعددة كنت ومازلت أجدها خير رفيق، بل وجدت كثيرين مثلي يحرصون عليها ويقدمونها للمغتربين في شتى أنحاء العالم، وأذكر أنني قدمت لزوجة الأخ العزيز عمار التلب منتج مسحوق الدخن، الذي يتم تحضيره بشكل سهل كعصيدة أو مديدة، وبعد أن جربته قالت إنه من أفضل ما جربت من المنتجات السودانية..! لقد كانت المضيفات السودانيات- إلى عهد قريب- يحملن الكسرة والملاح عبر القارات وتسلم إلى اقربائهن وأهلهن في لندن أو روما وغيرهما من العواصم الأوروبية عندما كانت الخطوط السودانية مشرقة طوال اليوم عبر الأجواء..! ومازال صديقنا محمد جبارة في الإعلام الخارجي يحمل المنتجات السودانية إلى أصدقائه الكثيرين من الإعلاميين العرب في كل رحلاته، والطلب المفضل هو الشاي الكيني والكركدي..! وكنا في غربتنا الطويلة منذ عقود نحمل معنا الكسرة اليابسة والخضرة المجففة وكذلك الويكة.. ويحمل المغتربون المصريون الجبنة القديمة والبط والوز..! ومازال صديقنا كمال عروة -وهو للعلم أحد بنوك الأفكار السودانية المتحركة- من الحريصين على أن يحمل زاده من الطعام السوداني معه حيث سافر وحل.. وله طريقة خاصة يرغب في تعميمها حتى تكون المائدة السودانية جاهزة وساخنة عند كل سوداني مغترب يشتاق إلى طعام بلده السودان.. وفي آخر سفرة لنا معاً إلى القاهرة، أدهشنا بمائدة سودانية عامرة بما لذَّ وطاب من ملاح سوداني وكسرة بل وتحلية.. وللحقيقة فإن كل شعوب العالم تفعل ذلك وتحرص على أن تنقل معها اكلاتها الشعبية حيث حلت، ويفعل ذلك الهنود والصينيون والفلبينيون وغيرهم من شعوب آسيا وافريقيا، ويحرص معظم السواح الخليجيين مع عائلاتهم و في إجازاتهم على أن يحملوا معهم الأرز«العيش»حيثما حلوا وما رحلوا..! وكان موسم الحج من المناسبات التي يحرص على الحجاج فيها على أن يحملوا زواداتهم حيث كانت الرحلات تطول شهوراً وسنين.. وكان للحجاج السودانيين عاداتهم وطريقتهم وأدبهم الخاص في الزوادة نوعاً وكماً. عندما وصلت الطائرة الكينية مطار الخرطوم كنت ارقب الشاب السوداني من طرف خفي، وقد انهالت عليه المكالمات فور تشغيل هاتفه المتحرك.. وبدأ في طمأنة الجميع بأن«الفنكوش» وصل..! وخرجنا في وقت واحد من الصالة وعند بوابة الخروج انقض عليه أخوانه واخواته وانتزعوا الكيس الثمين، وعليه شعار ماكدونالدز الشهير..! لم أكن مختلفاً عن الشاب كثيراً فقد كنت أحمل بعضاً من طيبات حلويات محل العبد الشهير بين شارعي 26 يوليو وشريف.. وتلك عادة تعلمناها من صديق عزيز كان يتحفنا في كل زيارة إلى الخرطوم من القاهرة بهريسة رائعة الطعم والمذاق من القاهرة..لقد أحببت أن أشير إلى أن خدمة التوصيل الفوري وبواسطة الهاتف مفقودة في السودان وهو مجال مربح جداً، ولكن لم يبادر صاحب رأس مال مغامر للدخول في هذا البيزنس الواعد، ما زلت أحلم أن أقرأ عدد صحيفة اليوم في الصباح الباكر وأنا في البيت، هذه خدمة تكاد تتوفر في كل بلد في العالم إلا عندنا.. إن الصحف تضيع كثيراً من قرائها لأنها لا تصل إليهم في مكانهم.. نحن الشعب الوحيد الذي يطارد الصحف كي ننعم بقراءتها..!