في أوائل سنوات الإنقاذ، وأنا عائد عند المغيب الى منزلي بالحارة الخامسة بالثوره شاهدت من على البعد عدداً من العربات تقف أمام منزلي فلم يساورني الشك بأن الوالدة قد حدث لها ما اخشاه، فهي كانت تعاني من عدة أمراض ضغط، سكري، مصران « فأسرعت الخطى واقتحمت باب الشارع الى الصالون مباشرة وأنا في غاية الاضطراب والإنزعاج، وكانت المفاجأة الكبرى، فأول من وقع بصري عليه كان اللواء الزبير محمد صالح النائب الأول لرئيس الجمهورية بقامته الفارهة، والزي القومي، والملفحة والعباءة، فعانقته طويلاً كما عانقت أيضاً مرافقيه، وهم كانوا جميعا بالزي المدني لم أشاهدهم من قبل غير اني عرفت أحدهم اللواء عبد الحي محجوب الأديب الشاعر المعروف الزيارة وعلامات الإستفهام: أثناء ترحيبي بهم كانت تدور في ذهني عدة علامات استفهام؟ ماذا وراء هذه الزيارة المفاجئة وأنا لم أتشرف من قبل بلقاء أو حتى مجالسة واحد منهم ،لا قبل ولا بعد الإنقاذ، كتمت حيرتي في دواخلي وأخذنا نتبادل عبارات الترحيب المتعارفة في مثل هذه المواقف، فجأة خاطبني الأخ الزبير قائلاً «حقيقة نحن في جولة لزيارة أخواننا الصحافيين والأدباء والشعراء بولاية الخرطوم لتعميق الصلات الأخوية بيننا وبينهم، فقد زرنا قبل مجئينا لك الأستاذ ابو العزائم بالحارة الأولى، ومنه مباشرة جئنا لزيارتك، ومن بعدك مباشرة سنزور الأستاذ الشاعر محي الدين فارس، ومن بعده سنذهب لزيارة الشاعر أبو آمنة حامد بالخرطوم بحري، فشكرته على هذه الزيارة التاريخية، ووعدته برد الزيارة وسألت الله أن يعمق أواصر الصلات بيننا فوعدني، ولما هموا بركوب عرباتهم قلت لهم أستاذ فارس معاي في الحارة ممكن أوصلكم بيته فرد عليّ اللواء الزبير شاكراً معانا دليل. كان للزيارة أثر طيب: لقد تركت في نفسي زيارة الأخ النائب الأول اللواء الزبير والوفد المرافق له أثراً عميقاً في نفسي ونفوس أفراد أسرتي لن ننساه ما بقيت في صدورنا قلوب تنبض وضاعفت من إعجابنا وتعلقنا به ورفاقه. فاللواء الزبير مشهود له قبل وبعد الإنقاذ بأنه يحتفظ بعلاقات إنسانية، ومعروف بين أقرانه منذ أن كان طالباً بالكلية الحربية بالذكاء والشجاعة والصبر عند الشدائد. الزبير وشظايا قذيفة: جمعتني الصدفة بعد زيارته الكريمة بأسابيع ببعض رفقاء سلاحه وتردد اسمه أثناء الحديث، فاجمعوا أنه جندي وطني مخلص، ولاؤه أولاً وأخيراً لتراب هذه الأرض ومقاتل شرس في حربه على المتمردين، وذكروا أحداثاً ومواقف محددة اواسط الثمانينات عندما كان قائداً لمنطقة الناصر برتبة عقيد وصلته معلومة أن المتمردين يتسللون لبعض المدن والقرى، ويرهبون المواطنين ويأخذونهم قسراً ويضمونهم إلى صفوفهم، فقاد جنوده وهجم على موقعهم ودخل معهم في معركة شرسة كبدهم فيها خسائر في الأرواح والأسلحة، أصيب على أثرها العقيد الزبير بشظايا قذيفة جعلت دمه ينزف، وعلى الرغم من ذلك واصل قيادة المعركة ونادراً في مثل هذه المعارك أن يصاب قائد برتبة عقيد. النقاهة في قيادته: ولما انتهت المعركة أخذ العقيد الزبير بالطائرة للسلاح الطبي بالخرطوم وتم علاجه وقرر اطباؤه أن يأخذ قدراً من الراحة وفترة نقاهة بالسلاح الطبي في جناح مخصص لذلك أو بمنزله، لكن العقيد الزبير أصر على ألاَّ يقضي فترة النقاهة مع قيادته وبين جنوده ومواطني الناصر، فكان له ما أراد. حقيقة يعرفها كل من عاصر اللواء الزبير « قبل الإنقاذ أن الأخ الزبير محمد صالح كان له رأي مستقل فيما كان يجري في السودان في أواخر فترة حكم الطائفية.. حينما كانت الساحة السياسية تعج بصراعات في حلقة مفرغة يأتلف هذا الحزب مع ذاك فيكونان حكومة، وغداً يختلفان فيشكل أحدهما تحالفاً مع حزب آخر، فيكون حكومة وهكذا أصبح السودان يدور في حلقة مفرغة تقوم حكومة وتسقط حكومة.. ولا تُعرف أسباب سقوط الأولى ودواعي قيام الثانية !!. حكومة الأحزاب تعتقل الزبير: في غمرة هذه الأحداث الخطيرة اعتقلت حكومة الأحزاب المؤتلفة العقيد الزبير محمد صالح متهمة إياه بالتخطيط لمؤامرة انقلابية لصالح نظام مايو، وأودع في الحبس الانفرادي ووضعت له مواد تقتضي الحكم عليه بالإعدام، وفق نص قانون القوات المسلحة السودانية. بينما العقيد الزبير في حبسه الانفرادي تفجر الانقلاب 30 يونيو 89 وأخرج من حبسه، وأصبح النائب الأول لرئيس مجلس قيادة الثورة، وأوكلت اليه مهاماً كبرى، ومنذ ذلك التاريخ أصبح رئيساً للجنة الأمن والدفاع على المستوى القومي، وقاد معارك شرسة ضد التمرد، ويحكي جنوده عنه بطولات خارقة، فقد كلفه مرة مجلس قيادة الثورة بتأمين المجرى النهري وتمشيطه بمنطقة جوبا حتى تتمكن البواخر المحملة بالمؤمن والغذاءات من الدخول للمدينة، ولكن حركة التمرد كانت له بالمرصاد وتبادلا النيران، فما كان من القائد الزبير ألا أن أمر طاقم طائرة عمودية بالتحرك وأصبح يقود المعركة بارتفاع منخفض على مرمى من نيران التمرد، أو الاصطدام بالأشجار معرضاً حياته للخطر.. وأخيراً انتصر على التمرد وفتح مجرى النهر ووصلت المؤن والغذاءات لمدينة جوبا . الزبير يفاوض المتمردين داخل رئاستهم بالغابة: إن نسي شعبنا فلن ينسى أبداً الدور التاريخي الذي لعبه الشهيد الزبير في اتفاقية الخرطوم للسلام، فقد سبقتها عدة لقاءات بينه وبين بعض الفصائل المتمردة، وبعد آخر لقاء طلبت منه تلك الفصائل أن يتم اللقاء الأخير بالغابة بمنطقة رئاسة تلك الفصائل، وكان طلباً مريباً وتحدياً مشهوداً، فتشاور مع رفاق السلاح فلم يوافقوه الرأي لكنه أصر على اللقاء بهم في الزمان والمكان المحددين داخل الغابة، وليحدث ما يحدث مجازفاً من أجل السودان، وبالفعل استغل طائرة إلى الناصر ومنها تحرك سيراً على الأقدام لساعات طوال دون حراسة واعزل من السلاح. لما وصل الموقع المحدد للقاء رآه دكتور رياك مشار أصيب بالذهول ولم يصدق عينيه فتعانقا وتبادلا التحايا ثم بدأ الحوار حول الجنوب وبعد نقاش طويل وصل القائدان إلى نقاط كثيرة لتحقيق السلام. قام د. مشار قائد الفصيل المتحرر بطبع البنود المبدئية لاتفاقية سلام، لما لمسه من شجاعة وجدية في شخصية الزبير، ولولا ذلك لما تمت اتفاقية الخرطوم للسلام.. منذ ذلك التاريخ أخذت فصائل المتمردين تتدفق نحو قرية مريال باي بولاية غرب بحر الغزال راغبة طوعاً واختياراً في التوقيع على الاتفاق إلى أن أصبح الأمر حقيقة ووقعت العديد من الفصائل واحدة تلو الأخرى على اتفاقية الخرطوم للسلام . هذه لمحات خاطفة وسريعة أردت أن أشارك بها في احياء ذكرى الشهيد الزبير الذي جاهد وناضل من أجل وحدة السودان، ونذر نفسه لقضية الجنوب إلى أن استشهد في حادثة الطائرة المشؤومة بأرض الجنوب. الملايين تشيع الزبير: وأكبر دليل على تعلق قلوب شعبنا بالقائد الزبير وحبهم له يوم شيعت الملايين جثمانه من الساحة الخضراء إلى مثواه الأخير، لقد زحفوا من كل أرجاء العاصمة والأقاليم في مسيرات حزينة وتلقائية راكبين وراجلين، ولا نملك في نهاية هذه العجالة إلا أن نقول طبت حياً وميتاً يا الزبير ونسأل الله أن يتقبلك القبول الحسن بأضعاف ما قدمت لوطنك ولشعبك. 18 أبريل 2002