أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    مليشيا التمرد تواجه نقصاً حاداً في الوقود في مواقعها حول مدينة الفاشر    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)    ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مَنْهَجِيَّة(حَاجْ حَمَدْ)الحَجُّ كَوْنِيَّةٌ عَالَمِيَّةٌ


مَدْخَلٌ أوَّل:
إلى روح أخي في الوشيجة والمنهج...(مُحمَّد أبو القاسم حاج حمد)، الغائب بعروجه الحتمي.. الحاضر الشاهد بمنهج الجمع بين القراءتين... طبت برزخاً ومآبا.
مَدْخَلُ ثاني:
إنَّ معاودة الاندماج في الرحم الكوني لا تتم إلاَّ بمنهجية الجمع بين القراءتين.
مَدْخَلٌ ثالثٌ:
التأريخ في المنهجية القرآنية، ليس نفياً مرحلياً.. ولكنه تعاقب متكامل لكل أمة، فيه ما كسبت، وعليها ما اكتسبت، ولكل أمة فيه مقوماتها، واتجاهات وعيها المفهومي..
(مُحمَّد أبو القاسم حاج حمد).
إنَّ شعائر الإسلام كلها كونية وعالمية، لأنَّ الإسلام هو (وريث) كافة الرسالات والنبوات، بحكم خاتمة النبوة والكتاب. ولهذا كان خطابه (عالمياً)، وينطلق من الأرض (المحرَّمة) بالذات. وعلى نفس النسق، وفي إطار نفس المنهج، تأتي شعائر الحج (كونية عالمية)، وريثة لكافة تجارب النبوات.
مَنَاسِكُنا ومُمَاثِلاتِها فِيْ تَجاربِ الأنْبِياء:
في التاسعِ من شهر ذي الحجة، من كلِ عامٍ قمري، يقف الحجاج بجبلِ عرفات، ذاك هو يومُ الذروة في الحج، فالحجُ عرفة، ومن قبل ذلك اليوم تطوافٌ سباعي من حول البيت الحرام، نطوفُ حول أركانه الأربعة عدداً، ولا نتخذ شكل الدائرة، وإنَّما شكل الاستدارة الدَّحية خارج المقام الإسماعيلي، ومن بعد عرفة إفاضة إلى المشعر الحرام بمزدلفة، ومنها إلى منى حيث الرمي بالجمرات وتقديم القربان، ثمَّ تطواف سباعي آخر من حول البيت دحياً، وهكذا يتم الوداع. قد تبدو هذه المناسك في ظاهرها، مجرد طقوس يحاول الكثيرون تأويل مغزاها وتأريخيتها، في حين يعتبرها آخرون أشكالاً عبادية للاتصال الروحي بالبارئ سبحانه، غير أنَّنا نطرح هنا فهماً أكثر تدقيقاً لمغزى هذه المناسك تمهيداً لمعرفة دلالاتها. بدايةً، يجب التنويه بأنَّنا لا نملك نصوصاً دينية جازمة تفسر معنى هذه المناسك، ولا نجد نصاً يشير إلى الخلفية الفلسفية لمعرفتنا بقصة الفداء والقربان، سوى الرؤيا المنامية للخليل إبراهيم، ومع عدم توافر النص القطعي، لا يمكننا اللجوء إلى محض التأويل الذي يستند إلى وحي الخاطر، فكثيراً ما يرجع التأويل إلى ذاتية المتأول الروحية، إذا يستند إلى ضوابط موضوعية للمعرفة، يسهل للغير التعامل مع قواعدها، تكاد تفرض مثل هذه الصعوبات الاستحالة على معالجة مناسك الحج، بخلفياتها التأريخية وما ورائيتها الفلسفية، غير أنَّ حاج حمد(مُحمَّد أبو القاسم حاج حمد)، والذي يعتمد منهجية الجمع بين القراءتين، وقوة الوعي الثلاثي(السمع، البصر، الفؤاد)، وعبر هذا الوعي يلتقط التماثل وأوجه المقابلة بين هذه المناسك، وما اشتملت عليه النبوات من تجاربٍ روحية، فبقليلٍ من التدبير في مكنونات القرآن الكريم، نستطيع أن نكتشف وجود علاقة بين مناسك الحج، والتجارب الرئيسية للأنبياء. إنَّ منهج المماثلة القائم على التطابق بين منسكٍ معيَّن، وتجربة نبوية معيَّنة، لا يساعدنا فقط على فهم مناسك الحج، بل تصحيح الكثير من المفاهيم التأريخية التي زيفت تجارب النبوات الرئيسية، نجد أنَّ الله سبحانه وتعالى، قد ماثل بين هيكل الإبل وبنائية السموات والأرض: (أَفَلاَ يَنظُرُونَ إلَى الإبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17) وَإلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18) وَإلَى الجِّبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19) وَإلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ(20))، (الغاشية). فالمطلوب هو تحريك قوة الوعي الثلاثي لدى الإنسان، وهذا هو المنهج الإسلامي في الترقي بالوعي البشري، والتدريب على مقومات الإدراك لتتولَّد لدى الإنسان قابلية التفكير، وعليه، كان لنا أن نبحث في داخل النصوص القرآنية المكنونة الكريمة، عن مماثلات مناسك الحج، ووقائعها النبوية، فإذا كان خف الإبل يقابل سطح الأرض، فما الذي يقابل سباعية الطواف، أو رباعية البيت المحرَّم، أو الطلوع إلى عرفات في نهاية اليوم التاسع من ذي الحجة؟.
مُوسَى وإحْرَامُ الحَوَاسِ: لا نجد مماثلاً لخلع النعلين، وكشف الصدر، وتعرية الرأس، وحواسه، سمعاً وبصراً، سوى ما كان عليه موقف النبي موسى، في ليلة الطور، حين آنس ناراً تلتهب في شجرةٍ مباركة، نُودِي منها ليخلع نعليه، ويصغى بحواسه للكلمات المقدَّسة: (وَهَلْ أَتَاكَ حَديِثُ مُوسَى(9) إذ رَأى نَاراً فَقالَ لأهلِه امْكُثوا إنِّي آنسْتُ نَاراً لَعَلِي آتيكُم مِنْها بِقبسٍ أو أجدُ عَلَى النَّارِ هُدىً(10) فَلمَّا أتاها نُودِي يَا مُوسىَ(11) إنِّي أنا رَبُّكَ فاخْلِعْ نعْليْكِ إنَّكَ بِالوَادِ المُقدَّسِ طُوىٍ(12) وَأنا اخترتُكَ فاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى(13))(طه).
الحاجُ يخلع نعليه، ويكشف عن الرأس بكامل حواس السمع، ويكشف عن الصدر حيث القلب، فكأنَّه يأتي حجه كما أتى موسى ربه ليلة الطور. ولا تقف تفاصيل المماثلة عند هذا الحد، فنحن نهرول كما هرول موسى من قبل، حين تحولت عصاه إلى حيةٍ تسعى. هكذا نعيد في مقدمة الحج، إنتاج موقف من مواقف النبوة الموسوية، فنحن نصدق بكل الأنبياء، ولا نفرق بين أحدٍ منهم، ونأخذ بتراكم نبواتهم جميعاً، وصولاً إلى النبوة المحمدية الخاتمة، التي تستوعب كل إرثهم. عبر المدخل الموسوي، إحراماً، يكمل الحاج استعداداته للتلقي عن ربه في الأيام المباركة، إذن، تشكل تجربة النبي موسى، في ليلة الطور شعائر نتمثلها ونعيد تمثيلها في إحرامنا وهرولتنا كمدخلٍ حسي تطهري، يتخذ وضع الإحرام كبداية للانتقال من الإيمان الحسي، إلى الإسلام الغيبي، الذي نتابع مناسكه عبر أيام الحج المبارك، فعلى المسلم حين يحرم ويكشف عن حواس الرأس والصدر، من بعد خلع نعليه، أن يدرك أنَّه ينتقل من طورٍ إلى طورٍ أرقى، أي من الإيمان عبر الحواس، إلى الإيمان عبر الغيب. فالإسلام ليس مجرد دين خاتم، زمنياً للديانات التي سبقته، وإنَّما هو القمة التي تستوعب نهايات الأديان كلها، والخلاصة المتطورة.
مُمَاثِلاَت سُبَاعِيَّةُ الطَّوَافِ (الاسْتِخْلافُ الكَوُنِي للنُبوةِ الخَاتِمَةِ):
إنَّ مرحلة الطواف السباعي، والتي تطلق الإنسان من القيد الأرضي، وقيد الارتباط بالشعب المحدد، والأرض المحددة (النبوة الموسوية)، وتدفع به إلى مراقيه الكونية. فماذا تجسد سباعية الطواف ضمن الإشارات في النصوص القرآنية؟ وكيف يتسامى الحاج بهذه السباعية، من المحلية المقدَّسة، إلى الكونية المتسقة في رحاب الله؟
تأتي الإشارة إلى السباعية مرتبطة بالسموات والأرض:(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَواتٍ وَمِنْ الأرَضِ مِثلَهُنَّ يَتنزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لتِعْلمُوا أنَّ اللهَ عَلَى كُلِ شَئٍ قَديرٌ وأن اللهَ قَدْ أحَاطَ بِكُلِ شئٍ عِلْمِاً(12)) (الطلاق). فالسباعية إشارة إلى بنائية السموات والأرض، فالطواف من حول البيت سبعاً حين القدوم، وسبعاً حين الوداع، إنَّما يماثل دوران هذه السباعية حول مركزية تخشع لها، هكذا الإنسان، يجسد بطوافه قيامه عن السموات والارض، بمَهَمَّةِ العرفان الكوني لله، هذا الكون الذي يتكون الإنسان من نسيجه، من كافة عناصره. ولكن ما هي صلة الإنسان بهذه الكونية؟ ولماذا نجسدها طوافاً؟. ذلك تحقيقاً لمبدأ الاستخلاف الإلهي للإنسان الصالح في الكون كله، فنحن نطوف عن أنفسنا، وعما استخلفنا- سبحانه- فيه، إنَّ كل سماء هي مثنَّى أرض تقابلها، كالذكر مثنى الأنثى، وكالشمس مثنى القمر، وكالنهار مثنى الليل، ويمكن التدبر في سورة الشمس، حيث تتضح كيفية تكوين النفس الإنسانية، عبر جدلية ثنائية كونية، تمكنها من الاختيار، فجوراً وتقوى. لقد أفاد صريح القرآن بإذن الله- سبحانه- قد وهب مُحمَّداً، حق الاستخلاف الكوني، مع إضافة القرآن العظيم، كمعادلٍ معرفي موضوعي، يتحقق له من خلاله الوعي بهذه الكونية كلها: (وَلَقَد آتيِنَاكَ سَبْعَاً مِنْ المَثَانِي وَالقُرآنَ العَظيِمَ(87)) (الحجر). فتمَّ الارتباط بين النبوة الخاتمة في الأرض المحرَّمة، والاستخلاف الكوني، أما القول بإنَّ السبع المثاني، هي السور الطوال، فقولٌ مردود، لأنَّ السور الطوال، يحتويها القرآن العظيم، الذي ورد ذكره إلى جانب السبع المثاني. فقد جمع الله للنبي مُحمَّد، ما بين الكتابين: الكون الطبيعي، الذي مافرط الله فيه من شئ، والقرآن العظيم، الذي يحتوي المعرفة الكونية كلها:(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرَضِ وَلا طَائرٍ يَطيرُ بِجنَاحَيِه إلاَّ أمَمٌ أمثَالُكُم مَافرَّطنَا فِيْ الكِتَابِ مِنْ شَئٍ ثُمَّ إلِىَ رَبِّهمْ يُحْشَرُونَ(38) (الأنعام).سباعيةُ الطَّوافِ، هي تمثل في الحج للمكانة المُحمَّدية الكونية الاستخلافية المتسامية، وارتباطٌ بمبادئ الاستخلاف التي تضع الإنسان فوق الطبيعة، وفوق الرؤى المادية والوضعية. هنا تكمن العلاقة بالله، فوق التقديس، وباتجاه التحريم الذي لا تخالطه شوائب التشبيه، ولا الحلول، ولا التجسد، إنَّها علاقة العبودية الكاملة بعالم الأمر الإلهي، وهذا من أصعب مراقي الحج، أو حده الفلسفي الأعلى، غير أنَّ هناك حداً أدنى، بمقدور الإنسان أن يتمثله وهو يمارس الطواف الكوني السباعي نفسه، فالطواف، مع سباعيته الكونية، إنَّما يستدير بشكلٍ شبه دائري، حول بيتٍ رباعي، أي أركان الكعبة المحرَّمة، وخارج البناء الإسماعيلي، فمن أين نستمد معرفة ما وراء هذه الرباعية؟.
الخِلَّة الإبراهيمية والمَركزُ المَكاني والجِّهَاتُ الأربَعْ: (وَمَنْ أحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهْوَ مُحْسنٌ واتْبعَ مِلَّةَ إبرَاهِيمَ حَنيفاً واتخَذَ اللهُ إبرَاهِيمَ خَليِلاً(125) (النساء:ج 5)، والخلة صفة مكانية لا تشوبها معاني الحلول أو التجسد بقدر ما تتجه لمعنى الإحاطة بالكيان، ولهذا جاءت الآية التالية موجهة إلى هذا المعنى: (وَللهِ مَا فِيْ السَّمواتِ وَمَا فِي الأرَضِ وكانَ اللهُ بِكُلِ شَئً مُحيِطاً(126))(النساء: ج 5). لقد بدأت نبوة إبراهيم بالتأمل في المكان وظواهر الطبيعة بحثاً عن فاطر السموات والأرض، ضمن الملكوت: (وَكذلكَ نُرىِ إبراهيمَ مَلكوتَ السَّمواتِ وليكُون مِنْ المُوقِنين(75) فَلمَّا جُنَّ عَليِه اللَّيلُ رَأىَ كَوكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلمَّا أفلَ قَالَ لاَ أُحبُ الآفلِينَ(76) فلَمَّا رَأىَ القَمرَ بَازِغَاً قَالَ هَذا رَبِّي فلمَّا أفلَ قَالَ لئِنْ لمَ يَهْدنِي رَبِّي لأكُوَنَنَ مِنْ القَومِ الضَّالين(77) فلمَّا رَأىَ الشَّمسَ بَازغةً قالَ هَذا رَبِّي هَذا أكْبَر فلمَّا أفلتْ قالَ يَا قَوم إنِّي بَريءٌ مِمَا تَشْرِكُون(78) إنِّي وَجَّهتُ وَجْهِي للذي فَطرَ السَّمواتِ وَالأرضَ حَنيِفاً ومَا أنْا مِنْ المُشرِكِين(79)) (سورة الأنعام: ج 7)، لم يتراجع إبراهيم عن عبادة هذه الظواهر الفلكية نتيجة احتجابها ضمن الدورة اليومية، فإبراهيم يدرك منذ صغره أن الشمس والقمر والكواكب تحتجب يومياً، ولكنه تراجع عن عبادتها بالنظر إلى أفولها، والأفول في اللغة، إنما يعني النقص في التكوين، فيكون امتناع إبراهيم عن تعبد تلك الظواهر الفلكية، نتيجة الكسوف الذي ينقص الشمس، والخسوف الذي ينقص القمر، والطمس الذي يصيب النجوم. لقد تحول إبراهيم من المفطورات ناقصة التكوين، والمنظورة بالعين، إلى الإله الفاطر، وبالتالي، الكامل لذاته وبذاته، المحيط والمهيمن على المفطورات المنظورة، دون أن يكون منظوراً، فاستوجب التفكر الإبراهيمي، منطق الهيمنة الإلهية كعلاقة بين الله والوجود، أي وصل معنى الخلة نفسه الذي اتخذه الله له وعامله به، أراد إبراهيم التعرف إلى معنى الإحاطة الإلهية بالمكان، وعلى كيفيتها، فطلب من الله رؤية كيفية الإحياء للموات: (وَإذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ أرَنِي كَيْفَ تُحِيي المَوتَىَ قَالَ أوَلمْ تُؤمِن قَالَ بَلىَ ولكِنْ ليَطْمَئنَ قَلبِي قَال فَخُذ أربعةً مِنْ الطَّيرِ فَصَّرهُنَّ إليِك ثُمَّ اجْعَل عَلَى كُلِ جَبَلٍ مِنْهنَّ جُزءاً ثُمَّ ادعهن يَأتينَّك سَعياً واعَلم أنَّ اللهَ عَزيزٌ حَكِيمٌ(260) (البقرة:ج 3). وتتسق هذه التجربة مع منطق الإحاطة الإلهية نفسه بالمكان، غير أن الله- سبحانه- قد أضاف عناصر أخرى للتجربة، أولها: أن يكون عدد الطير أربعة، وثانيها: أن يوزع الطير المجذوذ على جبالٍ أربعة، تمثل الشرق والغرب والشمال والجنوب، وثالثها: أن يكون الداعي هو إبراهيم، حيث تُبعَث الطيور وتتجه إليه، فإبراهيم يتحول هنا إلى (مركز مكاني). دعاء إبراهيم للطير من الأماكن الأربعة، وهي في حالة الموات لتأتيه سعياً، يماثل بلا شك أذان إبراهيم في الناس بالحج، وهو أذانٌ غيبي، وليس دعاء مسموعاً أو نداء يخترق الحواس، والناس يأتون كما أتت الطير من كل الجهات الأربع، التي هي أقطار الأرض:(وأذِّن فِيْ النَّاسِ بالحَجِّ يَأتوُكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِ ضَامِرٍ يَأتينَ مِنْ كُلِّ فَجٍ عَمِيق(27) (الحج: ج 17). ثم خصص الله من بعد ذكر اسمه في الحج شكر الناس له على بهيمة الأنعام. لازمت المكانية تفكير إبراهيم الذي اتخذه الله خليلاً في مبتدأ بحثه عن الله في الظواهر الفلكية، ثُمَّ لازمته في تجربة دعائه للطير من الجهات الأربع، وكذلك في أذانه الغيبي إلى أفئدة الناس لحج البيت، والطواف من حول أركانه الأربعة، وكذلك لازمت هذه المكانية في إعادة إبراهيم وإسماعيل رفع القواعد من البيت، أي البناء على أساسٍ كان موجوداً:(وإذْ يَرفَع إبراهيم القَواعِدَ مِنْ البَيتِ وإسِمَاعيل رَبُّنا تَقبَّلَ مِنَّا إنَّك أنتَ السَّميعُ العَليم(127)) (البقرة: ج 1).
هذا اليقين، ضمن هذه الرؤية المكانية، جعل إبراهيم ينشد الأمن في المكان، الأمن في البلدة وفي الطبيعة، الأمن في الرزق، عبر الانسجام بين والخالق خلقه:(وإذْ جَعَلنَا البيتَ مَثابَةً للنَّاسِ وَأمْنَاً واتَّخذوا مِنْ مَقَامِ إبراهيم مُصلَّى وعَهَدْنَا إلىَ إبراهيم وإسْمَاعيلَ أنْ طِهِرا بَيْتِي للطَّائفينَ والعَاكِفينَ والركَّعِ السُّجود(125) وإذْ قالَ إبراهِيم رَبِّ اجعَلَ هَذَا بَلداً آمِناً وارزقَ أهلَهُ مِنْ الثَّمراتِ مَنْ آمَن مِنهم باللهِ واليومِ الآخِر قالَ ومَنْ كَفرَ فأمتعه قَليلاً ثُمَّ اضطره إلى عَذابِ النَّارِ وبِئسَ المَصِير(126)) (البقرة: ج 1)، ولذلك ربط إبراهيم بين الأمن والإيمان في تجربة الإحاطة بالمكان، فأصبح إبراهيم الخليل رمزاً لعالم المشيئة الإلهية المباركة، بما فيها من مفطورات وصورٍ شتى، فكان لابد من تلخيص التجربة الإبراهيمية في تقديم الشكر لله، عن المكان وبمواصفات تتسق مع شكل المكان ودلالته، ومن هنا تأصلت فكرة القربان الإبراهيمي، لشكر الله على المكان، بما يماثله من مظاهر المكان. ولقد ربط الله منذ البداية، بين الأذان الإبراهيمي للحج، وشكر الناس له على ما رزقهم من بهيمة الأنعام: (ليشهَدُوا مَنافعَ لهُمُ وَيذكُروا اسمَ اللهِ في أيامٍ مَعْلومَات عَلىَ ما رَزقهمُ مِن بَهيمِة الأنْعَامِ فَكُلوا مِنْها وأطعِمُوا البَائسَ الفَقِير(28)) (الحج:ج 17). فالقربان من بهيمة الأنعام المماثلة في هيكلها للمكان، وكشكر على المكان الذي خلقنا الله فيه، وما صورة إسماعيل ذبيحاً في الرؤية الإبراهيمية، سوى التوضيح للعلاقة بين الإنسان والمكان الكوني المسخر له، وقد جعل الله من (الأبل)، أصلاً للقربان في الحج، وقد تعرضنا لتجسيد خلق الأبل للبنائية المكانية الكونية: (وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَأذكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأطعِمُوا القَانِعَ والمُعْتَرَّ كَذلكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَكُم تَشكُرُونَ(36) لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهُا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقوىَ مِنْكُم كَذَلِكَ سَخَّرهَا لكُم لتُكَبِّرُوا اللهَ عَلىَ مَا هَدَاكُم وَبَشِّر المُحسِنينَ(37)) (الحج: 17).إنَّ القربان، هو الشكر على تسخير المكان، ووافر النِّعَم التي خُلقت للإنسان، وليس من الضرورة أن تكون القرابين من الإبل أو البقر، فالإسلام دينُ تخفيف على الناس، ورحمة بهم، غير أنَّ المهم في الأمر، هو تصحيح اعتقادنا بمعزلٍ عن الموروث التوراتي، حول حقيقة الرؤيا الإبراهيمية، حتى لا يُظن بأنَّ الابن كان طفلاً، يؤخذ إلى ساحة إعدامه، وحتى لا يُقال بأنَّ القربان، هو مجرد إسالة الدماء على الأرض، إذن، فالقربان شكرٌ على تسخير المكان، بمماثلات الأنعام، وضمن رؤيا عميقة، لفعل المشيئة الإلهية، التي باركت حياتنا، وتظل هذه القرينة، منسكاً وعقيدة راسخة، نؤديها لنعلم أنَّ الله وحده هو مصدر حياتنا، ومصدر هذا المكان المسخر لنا، فلا نشرك به شيئاً، ونكون له من الحنفاء.
الوُقُوفُ بِعَرَفةِ والإفِاضَةُ إلى المِشَعرِ الحَرَامْ:
قرينتان في آيات القران الكريم، تربطان ما بين فُلك نوح المشحون، وجبل عرفات، وما بين قوم نوح، والإفاضة من عرفات إلى المشعر الحرام. القرينة الأولى، هي دعاء نوح الذي أجراه الله على لسانه، طالباً بالتخصيص (منزلة مباركة)، يأوي إليها بفُلكه المشحون: (فإذا اسْتَويتَ أنْتَ ومَنْ مَعكَ عَلىَ الفُلكِ فَقلْ الحُمدُ للهِ الَّذي نَجَّانَا مِنْ القَومِ الظَّالمِين(28) وَقُل رَبِّ أنزلنِي مَنزلاً مُبارَكاً وَأنْتَ خَيرُ المُنزِليِن(29)) (المؤمنون: ج 18)، فالدعاءُ هنا أمرٌ إلهي إلى نوح، لأن يطلب تخصيصاً منزلاً مباركاً، وليس مجرد مرفأ طبيعي، وفي الدعاء المأمور توجهٌ إلى الله بأنَّه- سبحانه- خير المنزلين. فأين يكون الرَّسو إلاَّ في منزلة مباركة من عند الله؟! وأين تكون هذه المنزلة، سوى في البيت المبارك: (إنَّ أوَّلَ بيتٍ وُضعَ للنَّاسِ للذِي بِبَكة مُباركاً وَهُدىً للعَالمِين(96)) (آل عمران: ج 4). وحتى لا تمتد الشبهة إلى منازلٍ أخرى، مباركة في العالم، كالأرض المقدَّسة مثلاً، فقد جاء- سبحانه- بقرينة أخرى، تتجه إلى مكة تخصيصاً، وذلك حين خاطب خاتم الأنبياء حول مناسك الحج، حين أمره أن يفيض من عرفات، بنفس الكيفية السابقة، التي أفاض بها أناسٌ آخرون من عرفات ذاتها: (لَيسَ عَلِيكُمُ جُنَاحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُم فَإذا أفضُّتم مِنْ عَرفَاتِ فأذكُرُوا اللهَ عِنْدَ المِشْعَرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمُ وإنْ كُنْتُم مِنْ قَبْلِه لَمِنْ الضَّالين(189) ثُمَّ أفيِضُوا مَنْ حَيثُ أفَاضَ النَّاسُ وَاستغفِرُوا اللهَ إنَّ اللهَ غَفورٌ رَحِيمٌ(199)) (البقرة: ج2)، فمن هم الناس الذين أفاضوا من قبل النبوة الخاتمة، وأمرنا بأن نفيض مثلهم؟ من هم إن لم يكونوا قوم نوح الذين أنزلهم الله منزلاً مباركاً، في بيتٍ نسبه إليه، وحرَّمه؟!
غير أنَّنا سنأتي بقرينةٍ أخرى أكثر تدقيقاً، وهي تختص بمماثلات توقيت وقوفنا في عرفات، بتوقيت إقلاع فُلك نوح ورسوه، فنحن نقف في عرفة، في النصف الثاني من اليوم التاسع من ذي الحجة، فالنصف الثاني نهاية يوم، واليوم التاسع نهاية عقد، ونوحٌ قد لبث في قومه، ألف سنة إلاَّ خمسين عاماً، وسنحتسب هذه المماثلة بتوفيق الله.أوضح لنا الله تعالى، الفاصل الزمني في تجربة نوح، باتخاذ القاعدة من السنوات، والاستثناء من الأعوام: (وَلَقدْ أرْسَلنَا نُوحاً إلى قَوِمِه فَلبِثَ فِيهم ألفَ سَنَةٍ إلاَّ خَمْسينَ عَامَاً فَأخَذهُم الطَّوفانُ وَهُم ظَالِمون(14)) (العنكبوت: ج 20)، فنحن هنا أمام ضرورة اكتشاف الفرق بين السنة والعام، ولماذا تكون القاعدة احتساباً بالسنة، والاستثناء بالعام، السنةُ في اللغة، إنَّما تصدر عن تسنه الأشياء، ارتباطاً بتأثير الشمس الطبيعي، ونجد الأمر واضحاً في خطاب الله- سبحانه- إلى الذي مرَّ على قريةٍ ميتةٍ: (أوْ كالَّذي مَرَّ عّلَى قَريةٍ وهِيَ خَاويةٌ عَلىَ عروشِها قَالَ أنيَّ يُحِيي هَذِه اللهُ بَعْدَ مَوتِهَا فَأمَاتُه اللهُ مِئةَ عَامٍ ثُمَّ بَعّثهُ قَالَ كَم لبثتُ قَالَ لَبَثتَ يَوماً أو بَعضَ يَومٍ قالَ بَلْ لَبثتَ مِئةً عَامٍ فَانظُر إلىِ طَعَامِكَ وشَرَابِكَ لَمْ يَتسنه وانظر إلىَ حَمارِكَ ولنجعلُكَ آيةً للنَّاسِ وَانظرَ إلىَ العِظَامِ كَيْفَ ننشزها ثُمَّ نكسُوهَا لحماً فلمَّا تبيَّنَ لَهُ قَالَ أعَلمُ أنَّ اللهَ عَلىَ كُلِّ شَئٍ قَدِير(259) وإذ قالَ إبراهيم رَبِّ أرنِي كَيفَ تُحيِي المَوتَى قالَ أوْلَم تُؤمِن قالَ بَلىَ ولكنْ ليَطمئِنَ قّلبي قَالَ فخذ أربعةً مِنْ الطَّيرِ فصرهن إليكَ ثُمَّ اجعَل عَلَى كُلِّ جَبلٍ منهنَّ جُزءاً ثُمَّ ادعهن يأتينك سَعياً واعَلمَ إنَّ اللهَ عَزيزٌ حَكِيمٌ(260)) (البقرة: ج 3). السنة دلالة على الشهور الشمسية، أما العام فهو دلالة على الشهور القمرية، ونحن نعلم الفرق بينهما، بموجب سورة الكهف: (وَلبِثُوا فِي كَهفِهم ثَلاثَ مِائةَ سِنينَ وازدادوا تِسعْاً(25)) (الكهف: ج 18)، فكل ثلاثمائة سنة شمسية، تعادلها ثلاثمائة وتسع سنوات قمرية، أي بزيادة ثلاث سنوات قمرية، على كل مائة سنة شمسية. نوحٌ قد لبث في قومه ألف سنة إلاَّ خمسين عاماً، وتشير هذه العبارة، إلى الحيِّز الزماني للدعوة بينهم، فقد بقي نوحٌ بين قومه، بعد الألف سنة إلاَّ خمسين عاماً، ولكنه لم يبق بينهم داعياً لهم إلى الله، فقد أنبأه اللهُ بانَّه لن يؤمن له إلاَّ من قد آمن، ثُمَّ أمره ببناء الفُلك المشحون، فظل يبنيه في الخمسين عاما: (ومَا مِنْ دَابةٍ فِيْ الأرضِ إلاَّ عَلىَ اللهِ رِزقُها ويعلمُ مُستَّقرِها ومُستُودِعَها كُلٌ فِيْ كِتابٍ مُبين(6) وهَو الَّذي خَلقَ السَّمواتِ والأرضَ فِيْ سِتَّةِ أيامٍ وَكانَ عَرْشُه عَلىَ المَاءِ ليبلوُكُم أيُّكُم أحَسن عَمَلاً ولئن قُلتُ إنَّكُم مَبعُوثُون مِنْ بَعْد الموتِ ليقولُنَّ الَّذينَ كَفرُوا إنَّ هَذا إلاَّ سِحرٌ مُبين(7) وَلئنْ أخَّرنَّا عَنْهُم العَذابَ إلىْ أمةٍ مَعدودة ليقولنَّ مَا يَحبسه ألا يوم يأتيهم ليسَ مَصْروفاً عَنْهمُ وحَاقَ بِهم مَا كانُوا بِه يَسْتهزئون(8)) (هود: ج12).
الخمسون عاماً، المستثناة من الألف سنة، والموصوفة أو المنسوبة إلى العام، في مقابل السنة استثناءً لها، إنَّما تعادل في حساب السنوات، ثماني وأربعين سنة ونصف السنة، فلا يتبقى من تمام الألف، إلاَّ سنة ونصف، وهذا هو عين التوقيت، حيث يتم وقوفنا بعرفات، في نهاية اليوم التاسع من ذي الحجة، وقبل الدخول في بداية اليوم العاشر، وبعد جمع وقصر صلاتي الظهر والعصر. وفي نهاية هذا التوقيت، نزل قوم نوح من على الفُلك، ثُمَّ أفاضوا من مرتفع عرفات باتجاه المشعر الحرام، وهكذا أُمِرْنَا من بعدهم. هذه تجربة نبوية أخرى، نجسدها في مناسك حجنا، إذن، ليس عبثاً ميقاتنا في عرفات نوح، وليس عبثاً أن قرر الله ميقات الشهور الحُرم، فلا نتجاوزها بالنسيء، وليس عبثاً تقدير الصلوات ميقاتاً، فلا تكون ركعتا الفجر، إلاَّ حين الفلق بين أبيضٍ وأسود، ولا تكون ثلاثية الغروب، إلاَّ حين امتزاج الشفق حمرةً وبياضاً وسواداً، فالفجرُ انفلاقٌ ثنائي، والغروبُ تركيبٌ ثلاثي في الشفق، أمَّا الغسقُ، فليلٌ مُسدل، وفي النهارِ حكمةٌ ومواقيت، فليس من عبثٍ في التوقيت.
إنَّ ما نصححه بالقرآن الكريم، والمكنون من وقائع حياة الأنبياء، من شأنه أن يمجِّد هذا القرآن المهيمن على الكتب كلها، وأن يدفع الناس كافة إلى إعادة قراءته، إنَّ حديثنا عن مناسك الحج الإسلامي، كجماعٍ لتجارب النبوءات كافة، مع تصحيح الخلفيات والموروثات، عبر منهج الجمع بين القراءتين، وقوة الوعي الثلاثي، والتزام مبدأ الحرية، كحالةِ الطير في جو السماء، كل هذا مقدمة على طريقٍ نستأذن الله فيه، ونطلب قوة أمره المنزَّه، وإرادته المقدَّسة، ومشيئته المباركة. لقد أودع الله- سبحانه- هذه المعاني كافة في مناسكنا، من أجل ترقية الإنسان، ليحتل موقعه الكوني، بما هو فوق منطق الثنائية المادية بين الإنسان والطبيعة، أي الثنائية المدمرة للإنسان والكون معاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.