ماذا عساي أضيف؟..عالم متواضع ترك إرثاً من التأسيس والتنوير وحسن التواصل مع الأصل والعصر بفنون القول النبيل، والدين المعاملة والعمل الصالح، وغير ذلك مما تكرر على ألسن بليغة، تبارت حتى سنحت فرصة للبروف حسن مكى فقال إنه (كان صاحب أناقة داخلية)! تلفتنا وتهامسنا : (إنتهى البيان)! .. إيحاءات وذكريات تحتشد باللطائف والرقائق حتى كادت تهزم فلول الأحزان التي خيمت على المخيم ليلة التأبين(الأربعاء سادس أيام التشريق ،31 أكتوبر). عرفوه هكذا، المجادلة بالحسنى والمسامرة بالذكر والأنس بالفصحى والسماحة في النفس والقول والعمل حتى كاد هذا الملمح من حياته يطغى على فيض الذكرى المزدانة بدلائل الخيرات، الممتدة بين طيات النشأة والمسار من الخلوة الى جامعات الغرب يستقطب لسوح الإسلام كل من لاقى، ويواجه المستشرقين بالحجج الدامغة ويحصل بذلك مبكراً على درجة فى الدكتوراة رفيعة ومن بعدها كم من مؤلفات. جماهير غفيرة ولساعات طويلة جلوساً على الأرض كما الخلوة يتوسطهم الرئيس(أكثرهم حزناً) كما قال المتحدث باسمه د. مصطفى عثمان، معلناً تعهد الدولة بالوفاء للفقيد. لزموا الجابرة يسترجعون سيرة عالم جليل انسابت كالنهر، الكل يبرر لإنتزاع استحقاقه للكلام عنه عليه رحمة الله، ومنهم من احتمى بالصحف ليشفي صدره، وحين رمقت الطيب مصطفى يجلس بعيداً حزيناً أشفقت عليه من صمته، لكنه باغتنا صباحاً بانتباهة تندد(زفراتها) بمن استعصت دموعهم، وتحذر من مغبة عدم البكاء على فقد العلماء(الذين تستمطر بهم الرحمات واللطف الإلهي على البلاد والعباد) ونوه الى (مخاوف) ما بعد رحيلهم (فأعمال ودعوات الصالحين تقي البلاد من العذاب).. إني تخوفت فعلاً حين تأملت حولي في(من) فقدنا و(ما) فقدنا و(نوعية أخطائنا) مع ما أصبنا من فلاح فسارعت أبحث عن ملاذ في التاريخ الذي آلت إليه الآن صلتي بعالم أثرعلى تكويني الأكاديمي والروحي منذ عرفته الى عشية الإفطار معاً في رمضانه الأخير على مائدة الشيخ الدكتور الطيب الشيخ الفاتح الشيخ قريب الله.. حيث أم المصلين برغم معاناة ظاهرة، وقرأ عليهم برواية (ورش) التي تبناها لسر يعلمه الله، والبعض يفتي بأنها رواية أهل الجنة. مضى الزمن وتكشفت التجليات التي أودعها الله تعالى فيه.. سيل من مآثر الفقيد على ألسنة شخصيات عهدناها لا تميل للكلام، لكنه انساب بسخاء عن أسرار تعلق عالمنا الراحل بالقرآن والسنة، منهم الشيخ الدكتور أحمد الطيب الشيخ قريب الله والشيخ الطيب الجد، والشيخ عبدالوهاب التازي، والبرفيسور محمد عثمان صالح، الذي زامله في الدراسة هنا وببريطانيا، وقيادة الجامعة، وهيئة علماء السودان، والعديد من مؤسسات القرآن الكريم وعلومه ومؤلفاته. الكل يحسب أن الفقيد كان لهم وحدهم حتى أن المتحدث باسم الأسرة قالها صراحة (غلبتمونا) في الاهتمام به والسؤال عن صحته.. وقيل فيما قيل صراحة إنه (مارد طارقاً طرق بابه) وإن كرمه (كرم يد ونفس وعلم) الكل يصدقه فيما يفتى ويسدي، وكنت قد لمست ذلك بحكم صلتي به- وهي وطيدة منذ سعيت اليه وهو يؤسس لجامعة تثير الجدل برفقة اثنين من العلماء الشيخ الطريفى والشيخ حسن أحمد حامد عليهم جميعاً رحمة الله- وسألته في حوار لصحيفة (المسلمون) اللندنية: جامعة قرآنية وعلى الشاطيء؟! رده بفخر(ليعرف الناس إنها مميزة إسماً ومكاناً ورسالة) وقد كان، هي اليوم جامعات لا جامعة. عام 1995 والتلفزيون ينطلق للعالم طلب منه المدير العام الأستاذ الطيب مصطفى أن يرأس لجنة استشارية تضم كوكبة من أهل الثقافة والإبداع لابداء الرأي حول ما نخرج به لغيرنا وكنت وقتها مديراً للبرامج الثقافية التى اختصت باحتضان اللجنة فبدأت صلتي به تتعزز من خلال منهجه في المعاملة وبسط الرأي والحفاوة بالتنوع.. فيما بعد أشرفت على برنامجه (مفاتح) في فهم القرآن الكريم الذي يبدو أنه تعمد أن يكون للذكرى والتاريخ.. احتفى به التلفزيون واهتم المديرالعام الأستاذ محمد حاتم سليمان بتطوير معيناته وإسناده، فانتظم 324 حلقة بثت أولاها عصر الجمعة 8/9/2002م وخاتمتها بالجمعة الأخيرة من رمضانه الأخير 1432 ه 2010/8/3وكانت عن ليلة القدر، كما يقول منتج البرنامج حسن عبد الله الذي تعهده ضمن فريق متجانس جمعتهم به(محبة شديدة)لا يتضايق حتى ولو لغينا التسجيل (يتبسم ويقول.. ربنا أراد كده) وعادة ما يقول (أنا بشر وطالب علم إذا أخطأت صوبوني) وهذه الأخيرة روى مثلها الأستاذ الزبير أحمد الحسن، مما كان يحدث في حلقة التلاوة.. يضيف حسن عبد الله جزاه الله خيراً: كان أصحاب الحاجات يقصدونه بمسجد الشهيد يوم التسجيل فلا يضايقه ذلك، بل يفرد زمنا لمقابلتهم ومعه مدير مكتبه «فتح الرحمن» . كان واثقاً من صلتي ببروفيسورالحبر نور الدائم، فطلب أن أسلمه مسودة كتابه«مفاتح» ليراجعها وزاد هامساً: قل له بانتظاره هدية تجعله يهتف كما هتف ذاك الاعرابي لحظة فوجىء بناقته الضائعة تقف أمامه «والقصة معروفة، هكذا يسامرك بالسيرة المطهرة، بالفصحى «من القلب الى القلب» في«سماحة الفقيه» و«بالتي هي أحسن»، يتسع صدره للشورى متسامح لا ينازل من يختلفون معه في أمر«خلد ذكراه بنفسه، بجليل أعماله والذكرى للإنسان عمر ثان . د . عصام أحمد البشير استدعى المتنبىء يعينه على حزنه، الكل كان بليغاً يقاوم دمعه، ومن أبلغ ما سمعت حدثني أحد ملازميه الشيخ محمد الحسن الرضي إن والدته حفظها الله وقد أحست بثقل ما غشاه، سافرت لألمانيا تعاوده وقالت (أصلو البحبهم الله بيعطيهم من التقيل) وفي الأثر(أشد الناس إبتلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)، الجميع وجد في ذلك العزاء فتفاءلوا واحتسبوا وبقوا على رجاء في الله تعالى أن يعوض البلاد خيراً في عالم ارتبط قولاً وعملاً ومسلكاً بالقرآن والسنة، وعشق أنفاس الخلاوى وحاجة الناس وترك أثره« علماً، وابناً، وعملاً». أحمد على الإمام عليه رحمة الله رحل بعد أن ترك للناس ما ينفع، ومنه ما يعينهم على العزاء في فقده الجلل والإستبشار بالقادم بإذن الله، والحمد لله .