أيام قليلة وتنطلق من مدينة الثغر بورتسودان، على ساحل البحر الأحمر، تنطلق صافرات البواخر، وتشتعل الأضواء، وتجري دماء جديدة وشابة في عروق وشرايين المدينة الساحلية الجميلة، ويقف واليها الدكتور محمد طاهر إيلا، محاطاً بكوكبة منتقاة من أعضاء حكومته ومن أبناء البحر الأحمر، ليرحب بالقيادات الدستورية والسياسية والتنفيذية وضيوف الولاية الذين يصلونها من كل حدب وصوب، ليكونوا شهوداً على الأيام التي لا تنسى.. وكل ذلك يجيء إيذاناً بانطلاقة مهرجان السياحة والتسوق السادس في بورتسودان. «بورتسودان» مدينة أعرفها، وأكاد أحفظ كل ملامحها الخاصة والعامة، فقد ولدتُ فيها ولم أغب عنها أو عن زيارة أهلي هناك عاماً واحداً، مدينة ارتبطت بالوجدان والذاكرة والتاريخ الشخصي، وكنتُ أتشوّق في طفولتي لأيام (الإجازة السنوية) لانتقل مع والدتي - رحمها الله - وأشقائي وشقيقاتي إلى مدينة بورتسودان لقضاء الإجازة مع الأهل هناك. تلقيت قبل أيام دعوة لأكون ضيفاً على المهرجان، دعوة نقلها إليّ الزميل والصديق الأستاذ السموأل عوض السيد، ثم دعوة أخرى تلقيتها بالأمس من مجموعة أبو القاسم للمناسبات باسم اللجنة العليا لفعاليات مهرجان السياحة والتسوق لأكون أحد شهود المهرجان الذي يكرّم عدداً من الرموز الفكرية والثقافية والسياسية والرياضية والإعلامية، هذا العام في الفترة من الثاني والعشرين من نوفمبر الجاري ، وحتى الحادي والعشرين من فبراير المقبل، ومن بينهم الزملاء والأصدقاء الأعزاء الأساتذة الدكتور عبد العظيم أكول ومختار دفع الله، ومحمود محمد هساي الذي لا يعرفه قراؤه إلا باسم جده (هسّاي). أسعدتني الدعوتان، خاصة الثانية وفيها تكريم لزميلنا صاحب القلم العف المحترم الأستاذ هساي، لأنني رأيت في تكريمه تكريماً لنا جميعاً، لكل الوسط الصحفي وللصحافة الرياضية وللأقلام غير المنحازة، وجاءت السعادة مركّبة لأن الزيارة للمدينة الساحرة تنقلني نقلة نفسية ومعنوية أكاد أكون في أمس الحاجة إليها، ولأنها تقدير من القائمين بأمر المهرجان لرموز عامة لم يكن معيار الترشيح لتكريمها معياراً جهوياً تحكمه الإطارات الضيقة، والسبب في ذلك تركيبة المدينة نفسها التي تضم أعراقاً وقبائل عريقة تعايشت وتصاهرت لتقدم هذا المنتج الوطني الخالص، وأضرب دائماً مثلاً بجدي لوالدتي الذي جاء من أقصى (المديرية) الشمالية - مناطق البرقيق وكوكا وغيرها - عشرينات القرن الماضي، واستقر به المقام في المدينة الحديثة ليتزوج من القبائل العربية في منطقة سواكن، وتنمو شجرة تمد فروعها في كل الاتجاهات. بورتسودان الميناء حديثة، لكن المدينة قديمة، كانت قرية حملت اسم «الشيخ برغوت» وهو فقيه أقيم له ضريح هناك، وقد وصف ملاح برتغالي يدعى «خوان دي كاسترو» عام 1540م منطقة بورتسودان الحالية، مشيراً إلى اسمها (تراديت) الذي كانت تحمله آنذاك، وقال إنها تقع شمال «سواكن» بقليل، والأخيرة كانت هي الأكثر شهرة في ذلك الوقت. البريطانيون بدأوا تشييد المدينة في أوائل الألفية الثانية مع بدايات القرن العشرين واكتمل العمل في خط السكة الحديد عام 1906م، وتم افتتاح الميناء رسمياً في الرابع من أبريل عام 1909م في احتفال ضخم شهده خديوي مصر عباس حلمي الثاني واللورد كرومر القنصل البريطاني في مصر. بورتسودان تستحق أن تحتفل وتستحق أن نهتم أكثر بها وما حولها وليت اللجنة العليا للمهرجان جسّدت لنا حفل افتتاح الميناء من جديد.. ولو في المهرجانات القادمة.