أظن أنني كتبتُ هذا من قبل، ولكن لا بأس من الإعادة ففيها تذكرة وذكرى، علها تنفعنا وتنفع غيرنا.. عندما تلقيت دعوة حكومة ولاية البحر الأحمر للمشاركة في فعاليات مهرجان السياحة والتسوق السادس بولاية البحر الأحمر، لم أتردد في القبول، وأخطرت أخي وزميلي الأستاذ السموأل عوض السيد الذي أخبرني بالدعوة شفاهة من مكتب السيد الوالي، أخطرته بذلك لأتلقى بعدها خطاباً رسمياً من مكتب الوالي ممهوراً بتوقيع الأستاذ صلاح سر الختم كنة، وزير المالية ونائب الوالي.. الدعوة شملت عدداً من الفئات والأفراد والجماعات والشرائح تمثّل فيها كل السودان، وأعلم تماماً أن مهرجان السياحة والتسوق في بورتسودان يجعل المدينة تجمع (الدنيا والعالمين)، فالمدينة متميزة على كل مدن السودان بأنها ساحلية.. وميناء، وتركيبة (عجيبة) من البشر، كلهم الآن (بورتسودانيون)، حتى الأرمن والهنود، والأغاريق الذين ما زال أحد أجمل أحياء المدينة يحمل اسمهم (حي الأغاريق) الذي عاشت فيه (جورجيت) التي يعتبرها الناس هناك «ليلى» زمانها، و«تاجوج» عصرها، وقد خلد الراحل بروفيسور فيصل محمد مكي قصتها في روايته الموسومة ب(شامية في السودان)، وكنا قد شاهدناها تجوب شوارع المدينة ذاهلة تلتقط الأوراق وتقلب فيها كأنما تبحث عن خطاب وعدها به الأمل والرجاء وأطاره من بين يديها «غراب البين» الذي ما زال ينعق على رؤوس الأشجار. شاهدناها.. حسناء بيضاء كانت تقود دراجتها في بعض الأحيان تتنقل بها في أرجاء المدينة ووسطها، وشاهدناها متراجعة الحسن والبهاء، خائفة واجفة، وما كان لنا أن نقّدر بعقولنا الصغيرة وعيوننا الطفلة وقتها، حقيقة الأمر إلى أن كشفها لنا لاحقاً في مراحل وعي متقدم، بروفيسور فيصل- رحمة الله - وكشف ستر الحكاية الغامضة. كانت «جورجيت» صبية شامية جميلة، توفيت والدتها لتعيش بعد ذلك مع والدها وشقيقتها في منزل صغير جميل، وقد واظبت على دراستها حتى أكملت تعليمها لتلتحق بسلك التعليم، وينشب لها الحبُ مصيدته التي لا يفلت منها قلب ينبض.. وعلقت بفتى سوداني ريفي دفعت به الأقدار ليعمل في «بورتسودان»، وعلق بها قلب الفتى «محسن» لكن والد الحبيب ما كان ليقبل هذا التحول العاطفي الذي يُدخل عليه وعلى أسرته (أجنبية) في «الدين والدنيا» حتى ولو باسم الزواج، فجاء واقتلع الابن وعاد به لتعيش «جورجيت» في سجون الحسرة والإحباط، وتجوب الشوارع، وتسوء حالتها يوماً بعد يوم.. القصة قد لا تكون مناسبة ونحن نفتح الباب لنرصد فعاليات المهرجان، لكنه حبُ المدينة والأهل والأصحاب، وفيض المعاني والذكريات التي بقيت صورها في الذاكرة منذ سنوات بعيدة.. ثم.. هو تبيان مهم لنسيج المدينة الاجتماعي، والتي لا تشبه المدن الأخرى.. .. رفقتنا كانت طيبة.. وكنت أحسب أن طائرة واحدة ستقلنا إلى ثغر السودان الباسم، وحسبت أنني سأكون مع عدد من أصدقائي الذين يكرمهم أهل الثغر، ومنهم الأساتذة صلاح علي آدم، وهساي، ومختار دفع الله وعبد العظيم أكول، وصلاح بن البادية، وإسماعيل حسب الدائم وبلال موسى.. لكنني لم أجد أياً منهم في صالة كبار الزوار الجميلة بمطار الخرطوم التي أضفت عليها لمسات «كومون» للخدمات ومن ورائها مديرها الشاب الذي يضّج إرادة وقدرة وإبداعاً وخلفه جيش شاب وفنان. علمت أن طائرتنا ستكون الأولى وتليها أخرى، غير الطائرة الرسمية، التي تقل السيد الدكتور الحاج آدم يوسف نائب رئيس الجمهورية والوفد الرسمي المرافق له، وفي طائرتنا المخصصة لضيوف الولاية، وجدت وفد اتحاد أصحاب العمل، وهم جماعة تربطهم بالولاية غير أواصر العمل، أواصر حب عميق نشأ بعلاقتهم مع نائب الوالي ووزير المالية صلاح سر الختم كنة الذي كان عضواً في اتحاد أصحاب العمل، ووجدت زملاء أعزاء أسعدني وجودهم، وهم الأساتذة حسن البطري ومالك طه، والسموأل عوض السيد والبروفيسور عبد اللطيف البوني، ومصعب محمود- ابن المدينة الوفي- وغيرهم.. علمت لحظتها أن «بورتسودان» استعدت لاحتضان كل السودان، وجاءت لمشاركة الدكتور الحاج آدم يوسف نائب رئيس الجمهورية دلالة خاصة، لأن ابن دارفور ارتدى «صديرية البحر» مع لباس أهل المنطقة، أو ما يعرف هناك باللبسة البجاوية، أو «السربادوق». وصلنا بورتسودان، وقد سبقتنا طائرة السيد نائب رئيس الجمهورية بدقائق، لكننا التقيناه داخل الصالة الرئاسية، ومعه الدكتور محمد طاهر إيلا، ونائبه الأستاذ صلاح كنة وأعضاء حكومته، وأكثرهم يرتدي زي المنطقة وعلقت على ذلك هامساً لمن كان إلى جانبي: بأن كل الطرق الآن تؤدي إلى الوطن.. توحّدت الأهداف والرؤى والإرادة. حال وصولنا تلقفتنا الأيدي الأمنية، ووجدت الأخ والزميل والصديق الأستاذ محمد الحسن أبو زينب شقيرة، المدير العام لصحيفة «صوت برؤوت» والمدير العام لشركة الثغر للطباعة والنشر، وجدته جاهزاً ومستعداً لاستقبال ضيوف المدينة من أهل الصحافة والإعلام.. ولم يكن معنا شيء نحمله في أيدينا سوى حقائب صغيرة، انتقلنا ونحن نحملها من المطار إلى ساحل البحر الأحمر حيث ضربة البداية والكرنفال وانطلاقة المهرجان والألعاب النارية والمائية والألعاب الجوية المثيرة، والاستعراضات المدهشة.. كان المهرجان أزرق بلون البحر، أحمر باسمه.. لكن تلك كانت هي البداية.. وكما يقولون: «يا ما في الجراب.. يا حاوي».