رفدتني إدارة الإعلام والعلاقات العامة بمركز التنوير المعرفي أمس بنسخة من مجلته الدورية العلمية الثقافية التي تحمل اسم المركز -«التنوير»- وذلك للمرة الأولى منذ بدء صدورها، فالعدد الجديد هو التاسع ويؤرخ بيوليو 2010، فللمركز وإدارة تحرير المجلة عظيم الشكر والامتنان. بعد استلامي أمس للمجلة والخطاب المصاحب لها وعودتي إلى البيت تركت كل شيء وتفرغت تماماً للاطلاع على «التنوير» التي شدتني مهنياً وموضوعياً، أي من حيث الشكل والمضمون خصوصاً أنها قد خاطبت لدي حسرة دائمة إزاء المشكلات الفنية والمادية التي قعدت بالصحافة السودانية دهراً طويلاً وجعلتها تبدو دائماً في ذيل قائمة الإصدارات العربية بمعايير الجودة، وهي حسرة يستشعرها ويعيشها ربما مئات غيري ممن عملوا في مجالات الصحافة والإعلام بالخارج أو «في بلاد برة» كما عبر لي مرة د. عبد الله علي إبراهيم. الملاحظة الأولى على عدد «التنوير» الذي بين يدي تتصل بالإخراج بدءاً من الغلاف ومروراً بصفحاتها ال(182) وانتهاء بدعوتها للباحثين للمشاركة في العدد القادم وحتى الوجه الأخير للغلاف الذي حمل إعلاناً لما هو متوفر «الآن بالمكتبات» من إصدارات المركز الجديدة، فقد توخى مخرجو العدد وهيئة التحرير اعتماد مبدأ أساسي في الإخراج الصحفي تعلمناه لأول عهدنا بهذه المهنة، وهو البساطة مع الاتقان، وقد كان أول كتاب في علوم الصحافة حزته وعكفت عليه صادر عن أحد المعاهد البريطانية يحمل عنوان JOURNALISM MADE SIMPLE، الذي يمكن ترجمته عربياً إلى «الصحافة في البساطة»، وربما كان ذلك ما جعلني أعطي كل ذلك الاهتمام الاستثنائي لهذه المجلة «الهدية» خلافاً لغيرها مما يتساقط على بريدنا من إصدارات لجهات حكومية وأهلية مهمتها الدعاية والترويج الاحتفالي المُبذر. سرني أن هيئة التحرير اقتصرت في استخدام الورق الشمعي المقوى والمصقول على الغلاف بينما عمدت إلى استخدام ورق أقرب لورق الجرايد وإن تميز بالجودة وثقلٍ إضافي ولون مائل إلى الصفرة مما يريح العين في القراءة مهما كان حجم البنط المستخدم، وفي ذلك مفارقة للنهج المعتاد في الإصدارات الأخرى التي تتعمد الإيغال في استخدام الورق المصقول ظناً منها أن ذلك يغري بالقراءة بينما الذي يحدث هو العكس، «التنفير» جراء «زغللة» العيون التي يجهرها النور المنعكس من ذلك الورق، فهنيئاً لهيئة التحرير بالاختيار الموفق لمادة عملها. وفي الداخل أيضاً اعتمدت هيئة تحرير المجلة نهجاً مميزاً في الإخراج اتسم كذلك بالبساطة والمنطقية فجعل هامشاً على يمين كل صفحة أو يسارها بحسب موقع الصفحة ووضع له عنواناً أعلى كل صفحة باسم «محور العدد»، وحقيقة لم أفهم موقع كلمة «محور» هنا من الإعراب، وودت لو استعاض المحرر عن هذه الكلمة ذات الدلالات المتعددة بكلمة «هوامش» ذات الدلالة المحددة والواضحة والمتصلة بالمساحة المعنية. وفي كل الأحوال يظل إخراج «التنوير» إخراجاً مميزاً ومتفوقاً ربما حتى على مثيلاتها من الدوريات العربية والإسلامية. هذا من حيث الشكل. أما موضوعياً فالمجلة الصادرة عن مركز يظن الناس -وأنا منهم- يتصل بطريقة أو أخرى مع «المؤسسة الاسلامية» الحاكمة، بعد أن أصبحت الحركة الإسلامية في السودان «مؤسسة» او -Establish ment- كما يطلق الأمريكيون على القوى الاقتصادية والسياسية والاستخبارية التي تتحكم بإدارة بلدهم، فالحركة الإسلامية في بلادنا لم تعد بعد «التمكين» مجرد حزب أو حركة سياسية ناشطة، بل تحولت إلى منظومة من الآليات والهيئات والأنشطة -مادية وفكرية- ممتدة إلى كل مجالات الحياة. وتمنيت لو أن المجلة فصلت أكثر في «هوية المركز» وانتماءاته الفكرية في الصفحة التعريفية ولم تقتصر على «الأهداف» التي لا تقول سوى عموميات يلفها الغموض، ولا تفصح مباشرة عن الدوائر الراعية للمركز. وكان مثل هذا الإفصاح سيضفي المزيد من المصداقية والشفافية تساعد حتى الذين يختلفون مع توجهاته الفكرية على التعاطي معه ومع إنتاجه باطمئنان واحترام من واقع تلك المعرفة. ومع ذلك، لا بد من الإشارة لدرجة التنوع الكبيرة التي يُتيحها المركز، من خلال الكتاب والباحثين المتعاملين معه أو الذي سعى للتعامل معهم وحالفه التوفيق، ما يوحي بالرغبة في إصدار دورية علمية وثقافية حقاً، وهي رغبة يعلم القائمون على المركز بأنها لن تتحقق إلا بتوفير الحد الأدنى من حرية البحث العلمي وحرية التعبير وتدافع الرأي والرأي الآخر في إطار الصراع الفكري الباحث عن الحقيقة. وهو ما يعطي أي دورية أو صحيفة حيوية ومقبولية وقوة جذب لا تتوفر للمطبوعات أو الإصدارات ذات الاتجاه الواحد. وهذا بالتحديد ما ميز «التنوير» والعدد الذي بين يدينا، والذي جاء مخصصاً لقضية واحدة رئيسية هي «الهوية والتعدد الإثني». أفضل وأجمل ما في اختيار «الهوية والتعدد الإثني» عنواناً وموضوعاً لهذا العدد هو «التوقيت». التوقيت الذي جاء مصادفاً وموافقاً للجدل الذي ينتظم البلاد والإقليم ويمتد إلى العالم كله حول تقرير مصير السودان كله، كوطن وكيان قائم، والمخاوف المتزايدة من أن يصبح تقرير مصير الجنوب إذا ما أدى للانفصال نموذجاً وبداية لسلسلة من المطالبات الأخرى التي تتخذ من جدل الهوية والتعدد الإثني مدخلاً للحديث عن التهميش والإقصاء الذي تعانيه الأقاليم الأخرى التي شهدت تململات وتمردات. فالتنوير اختارت العنوان والموضوع الأنسب لعددها هذا الذي يصدر قبل خمسة أشهر فقط من الاستفتاء على تقرير المصير، مثلما اختارت ثلة من الباحثين المُجيدين من أكاديميين وكتاب معروفين لتناول «قضية العدد» من جميع جوانبها، فنجد العدد حافلاً باسماء من اتجاهات ومشارب فكرية مختلفة، تجد أ. هويدا صلاح الدين عتباني ود. قيصر موسى الزين ود. محمد عثمان أبو ساق ود. حيدر إبراهيم علي وأ. نازك عبد الحميد هلال، والباحث العربي د. محمد عمر شابرا الذي كتب عن فرص وشروط استعادة التوجه العقلاني إلى العالم العربي، وهو بحث -كما أرى- ينطوي على قدر كبير من الصدق والتجرد في مسألة تلفها وتحيط بها العديد من التعقيدات والحساسيات العقائدية والتعصبات وترتبط بطريقة أو أخرى بقضية العدد. كما اسعدني البحث المتأني والمتفكر والتوصيات الرشيدة والناضجة للأستاذة نازك عبد الحميد حول قضية أبيي. كما قدمت المجلة أيضاً عرضاً لكتاب ورسالة جامعية تتصل كلها بمسألة الهوية وقضايا الوحدة والتعدد، الكتاب يتصل بالهوية السودانية، والرسالة تتناول أثر الهوية على السياسة الخارجية التركية، دون أن تغفل «الإبداع» كمادة خفيفة أو «تحلية» تختم بها، بعد الوجبات الأكاديمية الدسمة التي حفل بها العدد فاختارت قصة للأستاذ إبراهيم إسحق بعنوان «حلحلة اللواحق من رأس القناديل». المهم، أن «التنوير» فاجأتني بالأمس وصادرت أمسيتي الرمضانية بكاملها حتى مطلع الفجر، وحرمتني من مطالعة الصحف اليومية أو متابعة أخبار الفضائيات والمسلسلات فوقفت على جل ما ورد فيها وكله «مشغول» بعناية تستحق الثناء والتقريظ، وسنتعرض لبعضه في «إضاءات» لاحقة، فهنيئاً لهيئة التحرير وفي انتظار المزيد.