العربي الأفريقي: مجلة في الزمن الموصوف بالجميل جزافاً للمغنية رأي سلبي كبير في شغل الأستاذ عبد الرحمن السلاوي. فهي القائلة: ما بنركب رقشات وراء ولا بنجيبو راجل مره ولا بناكل باسطة سلا وأنا على غير رأي المغنية في شغل السلاوي. فقد اقتسمت معه "باسطة" في زمن مضى وأسعدتني وساغ لي طعمها إلى يومنا. وتمر في هذا الشهر الذكرى الثلاثين لهذه الباسطة. وهي مجلة "العربي الأفريقي" التي أصدرها السلاوي في مارس 1979 وكنت رئيس تحريرها من وراء ستار. وهي من تلك "الظلال التي وقفت وما زادت" في تاريخنا. فما أن صدر العدد الأول منها حتى قتلها نظام نميري في المهد. الله لا عاده. العمل مع السلاوي لطف يتخلله ضحك يحسنه الرجل. وأكثر ما حببني فيه هو أنه وثق بي واستثمر بسخاء في مشروع ترك لي قيادته. وكان ذلك في زمن صعب خلاص.. فقد خرجت في نحو ابريل 1978 على الحزب الشيوعي الذي لم أذق بين عتاته طعم ثقة السلاوي ولا أريحيته وأنا وهم في فدائية العمل سراً تحت الأرض وسكراتها. فرحلوا هم وتركوني خارجاً عنهم. وكنت تعرفت على السلاوي خلال فترة الغيبة هذه ضميراً شيوعياً مستتراً . فقد كنت أغشى ميز عزابة هو فيه. ولسبب ما لم يطلع الصديق الذي كنت أغشاه السلاوي بحقيقة أمري. واذكر (لو أذكر) أنه قدمني إليه كقريب أو معرفة من كريمة. ووضح لي فيما بعد أن السلاوي لم يشتر هذا الغطاء. ووربما لحظ من لغتي أو من إجاباتي على أسئلته أنني شخص لم ير كريمة درة بلدي الصغير منذ عام 1961. وهذا هو الحق. واتضح له بعد خروجي أنني كنت ما كنته. وسخر مني ومن صديقي. ثم جاءني في آخر 1978 بعرض إصدار مجلة ثقافية. واستعجبت لهذا الفتى البلي بوي السمح، الذي بدأ يريش آنذاك في تجارة الصادر والوارد، يفكر في الثقافة أو الصحافة. ثم اتضح لي إن رأس ماله كان من الصحافة أصلاً. فقد هاجر صغيراً إلى الكويت وعمل في جريدة السياسة الشهيرة. وكانت مهمته أن يصدر ملاحق إعلانية بالأجر وبالعمولة. وقد ساقه هذا العمل إلى بلاد عربية كثيرة بحثاً عن الإعلان. ونجح وريش. وعاد إلى السودان. لم تساورني الشكوك في مشروع السلاوي كا هو متوقع من يساري مثلي يظن العالم كله في طلابه: المخابرات الأمريكية، جهاز الأمن القومي، والموساد، وكالة شينخو وفاتن حمامة (ليلاً في الأحلام) والنملة الحنونة وذبابة التسي تسي. ولم أثبط همته فعل المعارضين لنظمنا المستبدة الذين يصدقونها أنه لا يمكن عمل شيء حقيقي مؤثر في الفكر والسياسة وهي حاكمة ما تزال. فقد اختلفت خطتي للمعارضة عن معارضة التسويف التي ترجي كل شيء حتى يوم السعد: جدلة عرس في الأيادي ولتخرج الكنوز كلها من باطن الأرض تغني. فقد كنت وأنا بين الشيوعيين أدعو في مجلتهم الفكرية "الشيوعي" على كسر احتكار الحكومة للصحف وفرض الإصدار المتعدد لها منتهزين الثقوب في قانون الصحافة. ففيه مثلاً حق إصدار صحف ثقافية وفنية ورياضية. أنظر مقالي "الإعلام الثوري" بأحد أعداد "الشيوعي" لعام 1975. ولكن لا حياة لمن تنادي حتى سمعني السلاوي من غير أن يقرأ مجلتنا الغاطسة. فعرض عليّ أن أعمل معه لإخراج العربي الأفريقي. ولم أتهيب من بعد تجربتي مع السلاوى (الفتى الذي قد تراه غراً أو مسلطاً) أن أنحت فضائي من المسئولية التي تليني حتى في ظل أكثر النظم عتواً. فلم أرض تعطيل مساهمتي للوطن في الحقول التي أحسنها حتى يوم الفرج: "أصبح الصبح فلا السجن ولا السجان". فهذا التعطيل تفريط في تبعة الواحد في فتح النوافذ المضئية الصغيرة للناس في حلك العتمة ليثبتوا على الأمل وليروا من ثقب تلك النوافذ العنيدة مشارف الكون الجديد. كان ذلك ما ينصح به أستاذنا عبد الخالق محجوب المناضلين. فهو لم يكف يسألهم أن يبثوا الأمل في الناس كل صباح جديد بالإنجاز الصغير والمأثرة المتواضعة والحقائق الجديدة. وكان يسميها النوافذ التي يرى منها الشعب الوجود المغاير في لمح البصر. وسيجد المناضل في مثل السلاوي، غير المتوقع، سنداً. فالأشواق للوطن المغاير ليست حكراً لعتاة السياسيين في المخابيء أو في دركات كوبر أو في فنادق الغربة الموصوفة دائماً بذات الخمس نجوم. فالله فيّ، وأمثال السلاوى (الذين تخطئهم عين السياسي بل قد يتهمهم في وطنيتهم هم الغالبية) فيّ جداً. وللقاريء الواقف على "بشاتن" حالي مع المعارضة الرسمية لنظام الإنقاذ لقبولي عضوية المؤتمر القومي من أجل السلام (1989) أن يقرأ خطوتي تلك في سياق هذا التاريخ. سرعان ما حصل السلاوي على التصريح بإصدار المجلة. ثم وفر لنا مكتباً في عمارة الضرائب فاتحاً على جهة الجنوب منها. وكان يغشاني كل صباح بعربته الأسبريو بمنزلي ببري المحس حلة آل إسحاق (طراهم الله بالخير) لنلاحق تبعات إصدار المجلة. وأعجبني فيه كمستثمر أنه كان لا يستغلي شيئاً ليخرج منتوجه يسر الناظرين. اختار من بين المطابع معامل التصوير الملون السودانية لحرفتها المبتكرة في الطباعة الملونة التي لم تبلغها بعد المجلة السودانية آنذاك. ولم يقبل الدنية في المجلة فصدرت في ورق أبيض لا ورق جرنال. واختار من بين الخطاطين الأستاذ السر وهو أغلاهم والذي ظهرت مواهبه لاحقاً في استنباط خطوط عربية مشرقة لفتت إليه الانتباه. وكان كريماً مع ضيوفنا. أذكر مرة أن دعونا إلى ندوة المجلة. وكنت بشح خيالي قد قررت عقدها بدار الصحيفة الضيق. فأقترح السلاوي أن نستضيفهم بفندق الصفا الذي يقع فوق دارنا مباشرة. ورتب كل شيء مع إدارة الفندق فجاء الضيوف (وفيهم الدكتور خالد المبارك) وعزمناهم جد. ووجدته كمستثمر على درجة عالية من الخلق والمرونة. فقد تولى جانب الإعلانات من المجلة. وهذا أصل تخصصه كما تقدم. فجعل محور الإعلان لعددنا الأول قناة جونقلي. فنشر مادة إعلانية محلاة بصور شيقة في 6 صفحات من المجلة واتبع ذلك بأن جعل صفحة الغلاف الأخيرة لمشهد من حقول التشييد في جونقلي احتلته آلة حدباء عظيمة تمخر عباب أرض قناة المستقبل. وعلى النفس ذاته نشر إعلانين عن أعمال الحاج محي الدين الكجم وابنه صلاح من أميز المستثمرين في الجنوب ممن يريدون للناس أن يرونهم في الجانب الصالح من الأمر. ولم يكن ينتظر من المعلنين بأعداده الأولى مالاً. فهو لا يرى بأساً في المقايضة. سألته كم دفع لك الفندق الكبير على الصفحتين البهيتين في المجلة فقال لا شيء. إنني انتظر يوم يأتيني ضيوف لشركتي أو المجلة فيسكنوا فيه بالمجان جزاءا وفاقا. ولا أحسب أنه نال قرشاً على إعلانه لفندق الصفا. فلربما كان ذلك سداداً لفاتورة ندوة المجلة التي انعقدت في رحابه وفواتير أخرى علاوة على حسن الجيرة. وربما يذكر السلاوي أنني كنت اقول له سيطالنا الغنى لجنى الجنى من المجلة يوم تعلن عندنا شركة روثمان وساعات رولكس مما كنت أحدق فيه بحسد على صفحات مجلة "الحوادث" البروتية. ولكن فرحة ما تمت. ولم نكمل الحديث عن العربي الأفريقي (باسطة سلا) بعد. فالحلو ما يخلصش. 2-مجلة العربي الأفريقي (مارس 1979): هل كان التعريب لمناهج الجامعة مفاجأة أم أن هناك من نام على الحط؟ تمربنا بشهر مارس هذا الذكرى الثلاثين لصدور مجلة "العربي الأفريقي" (مارس 1979) الشهرية التي لم يصدر منا سوى عدد بهي واحد وأغلقها نظام نميري بالضبة والمفتاح. وكان صاحب امتيازها هو الأستاذ عبد الرحمن السلاوي رجل الأعمال المعروف وقدت أنا هئية تحريرها من وراء ستار. جئيت إلى رئاسة تحرير المجلة خلواً من خبرة في صالة التحرير سوى ما اكتسبته في جريدة أخبار الأسبوع الأسبوعية التي آلت إلينا نحن شباب الشيوعيين من الكتاب في آخر 1968. وكنا احتججنا على بؤس أداء حزبنا الشيوعي في حيز الثقافة والإعلام. فاحتوى أستاذنا عبد الخالق محجوب شتاء سخطنا بأن سلمنا الجريدة خالصة وورطنا في كدح الاصلاح ومصاعبه. ولكني جيئت لتحرير مجلة العربي الأفريقي وقد أطلت النظر في مجلة الحوادث وجريدة النهار اللبنانيتين مما كان يبرني بهما الصديق محمد دوعالي وأنا قيد العمل تحت الأرض الشيوعي. كما أطلت النظر في مجلة "سوداناو" التي كان عليها الأستاذ السر سيد أحمد الكاتب الراتب بهذه الصحيفة. وصدرت من وزارة الثقافة والإعلام التي كان وزيرها السيد بونا ملوال مستشار رئيس الجمهوربة الحالي. وكانت مجلة قامة كما نقول بإسراف على أيامنا هذه. وكمن من ورائها خبراء تحرير من الإنجليز جعلوها فتنة للقارئين والناظرين. واستمتعت المجلة بحرية صحافية نسبية لصدورها باللغة الإنجليزية لم تقع للناطقات بالعربية. وهي مرجع لا غنى عنه للباحث عن المجتمع خلال فترة صدورها. واقول هذا عن تجربة في البحث عن مادة كتابي عن تاريخ القضائية والإحياء الإسلامي. من شغلنا في التحرير أننا لخصنا في الصفحة الثالثة أكثر مواد العدد. وربما استفدت هذا من مجلة الحوادث. ودمغنا كل صفحة بخاتم أو شعار المجلة. ونظرنا في هذا إلى جريدة النهار كما اعتقد. ثم جعلنا لصفحاتها عناوين. فتحت "المشهد الداخلي" عرضنا للوقائع السودانية مثل تغطيتنا لاجتماع المؤتمر الثاني لبرلمان وادي النيل بقلم السيد عبد الله حميدة الكاتب وعضو مجلس الشعب أنذاك. كما غطى لنا الأستاذ عبد المولى الصديق افتتاح جامعة الجزيرة. ثم جعلنا "المشهد العربي الأفريقي" عنواناً لقصص عن العالمين العربي والأفريقي. كتب لنا فيه الدكتور نورالدين ساتي عن بدء الديمقراطية التعددية في السنغال والدبلوماس جعفر طه عن يوم الأرض في فلسطين. ثم جعلنا "المشهد العالمي" عنواناً لما يقع في العالم بأسره. وحررت فيه خلفية فكرية لثورة إيران والخميني بملخصات من كتاب أكاديمي عن شيعة إيران. وقصدنا بذلك أن يستنير القاريء بالمادة ليفهم مجرى الثورة الإيرانية المستفحلة آنذاك. وكنت معجباً بفكرة الصندوق المفروز من صلب المقال التي ربما استفدتها من مجلة النيوزويك والتايم الأمريكيتين. وكنت من العجبين بخرفتهما الصحفية وما أزال. فخصصت صندوقين واحد لشرخ مصطلحات الشيعة مثل "الخروج" و "المشهد" وغيرها. أما الصندوق الآخر فقد عرفت فيه بوثيقة شيعية مركزية هي "تنبيه الأمة". ثم جعلنا "صحافة" عنواناً نعينا تحته الأستاذ السلمابي بأكثر من مجرد الترحم. فعرضنا لسيرته العصامية من جرسون بمقهى بالقضارف لرجل أعمال وصحافي لا يشق له غبار. ووصفه لنا البروفسير محمد عمر بشير بأنه فقد كبير لمجلس الشعب لأنه كان "واحداً من أكثر اعضائه حيوية وحباً للجدل". كتب لنا الأستاذ رحمي سليمان تحت نفس الباب عن ذكرى له في تونس. ثم جعلنا عنواناً هو "ندوات" لعرض ما يدور في منتديات الثقافة والعلم. ولخصت فيه وقائع ندوة انعقدت للتعريب في جامعة الخرطوم وكان نجمها الدكتور جعفر ميرغني. وقد أعدت نشر الكلمة في كتابي "أنس الكتب" للراغب. وسيقف قارئها على أن اتهريب التعليم الجامعي لم يكن مفاجأة صادمة كما تقول الصفوة الناطقة بالإنجليزية. فقد كان استراتيجية طويل المدى للجامعة تستعين لأدائها بالبحث الدقيق. وكل المسألة أن صفوة الإنجليزية لم يستعدوا له سلباً أو إيجاباً ومثل هذه الندوات تنعقد بغير عناية منهم. فقد ظنوا أنها زوبعة في فنجان تفوت ولا حد يموت حتى جاءهم طائف من ربك. ثم خصصنا باباً لعرض الكتب سميناه "واجهة الكتب". عرض فيه البروفسير محمد عمر بشير كتاب الاستاذ حلمي شعراوي عن العلائق بين حركتي التحرر في أفريقيا والعالم العربي. كما عرض الدكتور أحمد عبد الرحيم فيه لكتاب "مقدمة لدراسة الأدب الأفريقي المعاصر" للدكتور يوسف الياس. وعرض لنا يوسف نفسه كتاباً لمؤلف من السنغال عن الإسلام والمجتمع في غرب أفريقيا. وتحت عنوان "الشباب" غطينا بالصورة والكلمة حمى مارس وهي المظاهرة الكرنفالية التي كانت تندلع في أول ذلك الشهر من كل عام للاحتجاج على قدوم شهر الامتحانات. ومن أطرف مشاهدها خصام الطلبة والطالبات. فيهتف الطلاب: بنات الجامعة بنات بايرات. فترد البنات: محجوزين للخريجين. وسعيت في مقبل الأيام لدراسة أوفى لهذا الكرنفال. وأوراقي عنه ما تزال تنتظر التحليل والكتابة. وبدأت مع الأستاذ الطيب محمد الطيب في المجلة دراسة مسلسلة عن شعب بني جرار أهل الفارس ذائع الصيت موسى ود جلي تحت عنوان "شعوب وقبائل". واتفقنا على استخدام ما جمعته عن هذه الجماعة من كردفان وما جمعه الطيب من البطانة لكتابة سيرة هذه الجماعة المخاطرة. وكتبت الحلقة الأولى. وصحبتها صورة لجبل قرين جلي بشمال كردفان الذي قتل عنده جلي والد موسى. وهي صورة من صنع الأستاذ غالب من مصوري وزارة الثقافة والإعلام الأفذاذ. وكل الفتيات البدويات الحلوات اللآئي يزين الدور والقصور مما التقطه غالب في بادية الكبابيش حين اصطحبته في عملي الميداني ليوثق بحثي وليحصل على صور للزينة والزي الكباشي لمشروع آخر. فردوا لغالب حق المؤلف. وتوقفت المجلة ولم نعد لا أنا ولا الطيب للمشروع. ولكنه ما زال يؤرقني وسأنتهز السانحة للفراغ منه بدون الطيب . . للأسف. ولكن إكراماً له. ثم جعلنا عنواناً هو "اهتمامات" لعرض خبرات الرجال والنساء في شتى الضروب. وجيئنا في العدد اليتيم بحوار مع الدكتور طه أمير عن موضوع تخصصه في علم النفس وهو التأتأة. وأعجبني تعريفه لها بأنها ضرورة الكلام والخوف من النطق. ثم خصصنا باباً للطرف والزوايا النادرة تحت عنوان "مما جميعه" كتب لنا فيه الدكتور أحمد عبد الرحيم نصر عن ثائر سوداني من مجاهدي عمر المختار الليبي. وكتبت أنا أعلق على فكاهة سودانية لدفع تهمة التجهم عن السودانيين. كما كتب الأستاذ عبدون نصر عن خصومة الهلال والمريخ. ثم جيئنا بعنوان "اصوات" لتغطية ضروب النشاط الثقافي خلال الشهر. وأذكر أنني استفدت هذا الباب من باب سبق بمجلة سوداناو حرره الأستاذ صلاح ؟ ؟ باقتدار. وكتب لنا الأستاذ محمد المهدي بشري عن كتب أحاجي عبد الله الطيب. وعرضت أنا ندوة للاب فانتيني بدار المكتبة القبطية عن المسيحية في بلاد النوبة. واذكر البرد الذي أحدق بالخرطوم في ليلة المحاضرة. وضاعف منه بؤس المواصلات فشواني البرد منتظراً ركبها المراوغ إلى بري المحس. ثم اقتطفنا من الصحف العالمية في باب "صحافة عالمية". وحرر الأستاذ حسن مختار صفحة الرياضة. وكتب لنا في المناسبة السيد نجيب المستكاوي الناقد المصري المعروف. وسأترك الحديث عن عنوانين آخرين إلى حديث الأسبوع الأربعاء إن شاء الله. 3-مجلة العربي الأفريقي (مارس 1979): رئيس تحرير لعدد واحد تمر بنا بشهر مارس هذا الذكرى الثلاثين لصدور مجلة "العربي الأفريقي" (مارس 1979) الشهرية التي لم يصدر منا سوى عدد بهي واحد وأغلقها نظام نميري بالضبة والمفتاح. وكان صاحب امتيازها هو الأستاذ عبد الرحمن السلاوي رجل الأعمال المعروف وقدت أنا هئية تحريرها من وراء ستار. جئيت إلى رئاسة تحرير المجلة خلواً من خبرة مؤكدة في صالة التحرير. ولكنني التقطت بعض مفاهيم في التحرير انتهزت سانحة المجلة لتطبيقها. ومن تلك المفاهيم وجوب أن تكون للمجلة مركز معلومات. وبدأت بقص ما يرد في الصحف والمجلات في موضوعات بعينها لحفظها في فايلات ثم موالاتها بقص وإضافة ما يستجد في الأمر. وما زلت أعتقد أن غياب مثل هذا الأرشيف منقصة كبيرة في صحافتنا اليوم. فصحفيونا يهجمون على المسألة حارة من نارها لا يلطفها تاريخ لها أو منطق في ذلك التاريخ. ولذا كثيراً ما اتسمت تلك الكتابات ب "القطع الأخضر" المهوش. فيأتي الرأي فطيراً لا ينعدل به رأس البلد بحكمة النظر المحيط. وهذا منشأ الهارج ضارب الأطناب في البلد. ولا تستعين هذه الصحافة حتى بإرشيف وكالة سونا الذي جمعت فيه مثل هذه الفايلات وأوعت. وبلغ بي اليأس من جفاء الصحف لإنشاء مراكز معلومات أن اقترحت على الحكومة أن تقيم مركزاً تموله من رسوم تفرضها على الصحف. كيداً عليها. كان من بين أفكاري التحريرية الأخرى أن أسوى لغة المجلة. وأعني بذلك مسألتين. أن نتفق على طريق رسم كلمات خلافية حتى نكتبها بصورة موحدة في الجريدة. فكلمة مثل "مسئول" تعددت صور كتابتها. ولا يصح أن ترد في نفس المجلة برسوم مختلفة. هذه واحدة. أما الفكرة الأجرأ فكانت إعمال قلم التحرير في ما يرد من مقالات حتى نسوى ألكتابة في المجلة على وتيرة واحدة تلتزم الديباجة العربية. وتذكرت تجربتي مع العربي الأفريقي قبل أسابيع حين جمعني بالدكتور عبد الله حمدنا الله مجلس امتحان لطالب دراسات عليا. فأحصى له عبد الله أخطاء في الإسلوب أحرجت البحث من مدار الديباجة العربية إلى سواها. وساقني هذا الحرص على هذه الديباجة لإحضاع مقالات لكتاب كبار لهذه السوية الإسلوبية. وخرجت من التجربة بأن أميز مثقفينا يحسنون التعبير عن أفكارهم باللغة الإنجليزية لأنهم تدربوا مدرسياً على ذلك. فأما العربية فهم يكتبون بها كفاحاً أو احتساباً. ومن بين ذكريات تحرير العربي الأفريقي التي تمكنت مني هو نجاحنا في استدراج المرحوم إبراهيم حسن علام المراجع العام بالمعاش آنذاك للكتابة للمجلة. فقد كنت قرأت له كلمة من أطرف ما عرفت أيامها مزج فيها بين اسمه (إبراهيم) وإطلاق "حاج إبراهيم" على (الكلب) عندنا. وراوح بين المعنييين خلال ملابسات في حياته ضحكت لها كثيراً. ولما فكرنا في كاتب لبابنا الأخير الخفيف "عن الزمان وأهله" اقترحت علاماً على السلاوي. وركبنا سيارته ساب وطفقنا ندور شوارع الامتداد الجديد بحثاً عنه. فوجدناه وأكرم وفادتنا وقبل بلطف أن يكتب لنا مرادنا. وكتب قطعة جميلة لعددنا الأول عنوانها "زواج عجوز فان". وربما كان العنوان من اختياري. وهي عن عوائد الزواج بين شعب الجوامعة الذي نشأ بينه في بلدة أم روابة. فحدثنا عن الزواج بالمنيحة أو المنحة وهي الإمهال في الدفع. وعرض لدور النسيبة المبغوض بينهم. ولذا سموا شوكة الحسكنيت السوداء الفتاكة ب "خشم النسيبة". وزواج العجوز من شابة من أبغض الحلال عندهم. فهم يأخذون الشاب "ساكت علي حنجوره (الحنجرة أي بهاء شبابه)" بينما يلعنون الشائب ب "الملة الفوق صنقوره". وحكي عن حفر الآبار وحيل ذلك كما تحدث عن إحسان الجوامعة لقص الأثر أو القيافة. لم يحتمل نظام نميري العربي الأفريقي فأهلكها. مع أننا لم ندخر وسعاً في "ترقيد شعرة جلده". فما كان خافياً علينا أنه نظام لا صبر له علي التعبيرات المستقلة. واتخذ من ذريعة تحالف قوى الشعب العاملة سبباً ليطوي كل شيء تحت مظلته: الاتحاد الاشتراكي الفرد كما كان يقال بفخر مستبد. وفاتحت السلاوي، صاحب الامتياز، في ضرورة تأمين المجلة من القيل والقال وكيد النظام وشماتة المعارضين الذين لا يؤمنون أنه بوسع أحد أن يؤدي خدمة متجردة للوطن في شرط استبداد نميري. فهم سينتظرون إلى يوم الخلاص منه ليأذنوا بالصحافة. واقترحت عليه أن يجعل الغلاف كله لنميري. ولم يعجب السلاوي الاقتراح لأنه خشي ألسنة المعارضين الحداد. وراجعته فقبل على مضض. وما قبل حتى أبدع في اختياره صورة من أرشيف وزارة الثقافة والإعلام ظهر فيها نميري ينظر إلى مجسم للكرة الأرضية مركزاً على خارطة أفريقيا والشرق الأوسط. واقتطفنا عبارة له تقول: "لقد توحد السودان محققاً للأمة العربية صيغة جديدة لا تتعارض فيها أفريقيته مع عروبته". وظننا أنّا القينا للوحش الهائج قطعة من اللحم النيء كما يقول أهل الإنجليزية عن ملاطفة الشرير. ولم تسلم المجلة من بطش نميري. فأوقفها. ولا نعرف حتى الآن بالتحديد سبب تعطيلها للأبد. ولم يتفضل النظام علينا بوجهة وسمعنا بدلاً عن ذلك تكهنات. فسمعنا أن الصورة السخية التي ظهرت بها المجلة (مادة غنية ألوانها مفروزة تسر الناظر) وسوست للنظام. فظن أن ليبيا، عدوه اللدود آنذاك، هي التي انفقت عليها. وقيل لنا أن المؤسسة الصحفية الرسمية هي التي كانت وراء هذه الوسوسة لأنها فشلت بصورة ذريعة في إخراج أياً من مجلاتها بما يشبه العربي الأفريقي من قريب أو بعيد. ولكن وجدت من رد التوقيف ألى نشرنا للدكتور عبد لله النعيم كلمة بعنوان "عودة الدين في الغرابة: الدين غائب، الدين عائد، وهو عائد في غرابة". وهي كلمة خصصنا لها باباً عنوانه "رؤية إسلامية" ننشر فيه عقيدة الفرق الإسلامية السودانية في مناسبة بدء القرن الهجري الخامس عشر. وربما لم نوفق بعرضنا رؤية الجمهوريين في عددنا الأول. فقد اتضح لي لاحقاً أن النصف الثاني من عقد السبعبنات كان مسرحاً لصراع شديد بين الجمهوريين والعلماء الدينية. فقد تعقب العلماء الجمهوريين وأستاذهم محرضين المصلين عليهم في كل جامع وفوق كل منتدي لحمل الحكومة على تنفيذ حكم الردة في الأستاذ وفض تلاميذه عنه ومنعهم من الدعوة لفكرتهم. وأرادوا من ذلك تنفيذا قرار محكمة الردة الأولى ضد الأستاذ محمود في 1968. وبدا لي من بحثي المتأخر أن جهلنا بخفايا صراع محمود والعلماء رمانا في نشر مقال ربما استفز العلماء المتنفذين لسد كل فرجة يتسرب منها فكر خصمهم الألد. ولم يمنع تحوطنا بدغدغة نفس نميري برسم صورته على الغلاف من التوقيف. فقد غابت عنا أشياء أخرى. لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما رضيت من تجربة العربي الأفريقي بديلاً: رفقة عبد الرحمن وأخوته والمحررين والمصممين والمعينين كلهم. كنت رئيس تحرير لعدد واحد. ولكنه عدد ولا كل الأعداد. باسطة بس.