وحين أكتب عن صديقي علي فقير عبادي تستيقظ في الخاطر ذكريات قديمة، وتتسابق إلى الذاكرة أصداء السنوات العديدات التي قضاها صديقي علي يرتب المؤتمرات ويحتضن المايكرفونات.. كان رقماً بارزاً في منظومة الاتحاد الاشتراكي، وكانت له في دهاليز السياسة وأضابيرها صولات وجولات.. ولكنه مع ذلك كله خرج من كل تلك الدنياوات الحافلة كما دخلها أول مرة، خالي الوفاض متصحر الجيوب تماماً كصديقه (السادن سيئ الحظ) تاهت في خضم القضية العامة قضيته الشخصية الحزينة.. وتوارت خلف لافتات الأداء العام منارات تطلعاته الذاتية التي ملأت أفق حياته ذات يوم بعيد تسربت من بين يديه الأيام والشهور والسنوات.. وشب عن الطوق (حذيفة) و (عمار) والآخرون.. لم تشمخ فوق ساقيته القديمة في بنقنارتي.. أشجار (القرين) ولم تزدهر تجاه جروف (عشمانة) بورات النخيل والتمور والأعناب.. ولم يتخذ له (فيلا) أو ترتفع له عمارة. تلاحقت أعوام عمره، ورصيده في الحياة حزمة مشاعر.. امتدت عبرها جسور الود تربطه بعشرات من البشر.. على امتداد (الشمالية الكبرى)، وتتسلل الأسماء والمواقع، ويتردد صدى الذكريات والمناسبات.. عبدالرحيم إسماعيل، الرشيد غالب، فؤاد السعيد، محمد أحمد كونتي، وصالح علي حسن، وبيرم، سيد بكري وعوض خيري وعثمان اليمني، إبراهيم عز الدين ونصر الدين حاكم، وعشرات أخرين من القولد والبركل وبدين... وعبري وحلفا الصامدة.. قيادات شعبية ورجال لا ينساهم الناس. ويجيء يوم تخلو فيه دنقلا من صديقنا علي فقير وتنبعث من بين أركان مكتبه القديم وزواياه بقايا ضحكات صاخبة كانت تملأ أرجاء المكان يوم كان المكان قبلة للزائرين والمستطلعين والمتطلعين.. ويفتقد الهاتف المسكين رنين السائلين عن مدخل لقضية أو عن محور لحوار.. أو عن حل مشكلة أو عن إعداد للقاء تتسهل بعده الأمور.. و(تتجيّه) المسائل وتتداعى إسقاطات الأمس الذي كانت تصطف فيه حلقة الأنس بدار صديقنا علي في ضيافة حرمه الكريمة الحاجة (طاهرة) حين كان القوم يتوافدون يحملون الأخبار والقفشات ويسردون تفاصيل الأحداث وخفايا الحوادث.. (المحافظون المتعاقبون) كامل محمد سعيد، ومالك نابري وجعفر دفع الله وعثمان بكري القمز وصديقنا الإداري العتيق العتيد محجوب الصديق، وجمع غفير من تنقسي أو تنقاسي، ومن عرب البادية أحياناً.. وأحياناً من أطراف أردوان.. ومع إشراقات الاستغراق في ليل دنقلا كانت تتلاشى فيما بين الحاضرين حواجز الوظائف والمواقع والانتماءات.. وكان البساط (أحمدياً) تتخلله طوابق (القراريص) الساخنة تصحبها (ملوحة) راقية خمسة نجوم من أسماك بحيرة النوبة.. بكل هذا الزخم المحتشد ذهب صديقي (علي) إلى عطبرة في أمانة الإقليم الشمالي للاتحاد الاشتراكي نائباً سياسياً لبروفيسور عبدالله أحمد عبدالله، فانتقلت معه هذه الصور الزاهية وتوسعت مساحاتها فتوطدت علائقه مع رجالات جدد من شندي والمحمية وجبل أم علي والعالياب والزيداب والكرده والكربة ومقرات ونبري وشيوخ الكتياب والحرة وقائدها (حسب الدائم) ونهر عطبرة والعمدة علي صالح.. تبوأ صديقي مواقع مختلفة بعد ذهاب مايو والاتحاد الاشتراكي -تشريعية وتنفيذية- وكان فيها كما هو يقدم للجميع دون تمييز، حتى وجدناه اليوم إحدى جواهر العقد الفريد الذي يزين جيد صحفية (آخر لحظة) المميزة.. إن الأخ الصديق (علي فقير) وأمثاله من الرجال نقول لهم: إن معزتكم ستظل أجمل ثوابت العمر في زمن يتغير فيه الأشخاص شكلاً وجوهراً وتتبدل فيه الأشياء مظهراً ومعنى ولكن تبقى مودتهم أقوى وشائج الارتباط. ( السادن سيئ الحظ)/ وادي حلفا