لم يخطر لي على بال إني سأخرج في وقت قريب من حالة (الكمون والبيات) الكتابي التي دخلتها منذ شهر مايو الماضي لولا قراءتي لحيثيات براءة سيدة الأعمال الهندية (مالا كلواني) من تهمة الفعل الفاضح برفقة آخر، والتي أوردتها جريدة (الدار) الغراء في عددها رقم 6484 بتاريخ 6 ديسمبر 2012م تخليت عن العمل بالشرطة ما يقارب ربع قرن من الزمان، غير أني لم أتخلَ عن اهتمامي وحبي للشرطة، كما لم أتخلَ عن المهمة الجليلة التي تم إعدادي لها بكلية الشرطة وهي العمل الجاد المثابر لبسط الأمن وإقامة العدل، حيث إنهما من القيم الإنسانية الخيرة التي يحض عليها ديننا الحنيف، ولذلك دائماً ما يسيئني ويجرحني ويؤلمني ويغضبني كل عمل يقدح في مهنية الشرطة من منسوبيها أو من خارجها، وكذلك كل فعل من شأنه اجهاض العدالة وإضاعة حقوق الناس، وذلك بالفعل ما قد حدث في القضية موضوع هذه الخلاصة، وكاد أن يتم لولا أن تصدى له فارس من قضاتنا يسمى أزهري مبارك الفاضل. ويفيد ملخص الوقائع الثابتة في القضية أن المتهمة الأولى (مالا كلواني) التي تجاوزت العقد الخامس من العمر سيدة أعمال هندية الجنسية، ومن المستثمرين الأجانب بالسودان وتشرف على أعمال شرطة (سوبر شاين) التي أسستها في عام 2001 فضلاً عن اشرافها على أفرع الشركة بكل من أثيوبيا، وتنزانيا، وليبريا، وزنزبار، وسيراليون، والهند، منذ أكثر من خمسة عشر عاماً منطلقة من مقر الشركة بسلطنة عمان وقد اعتادت السيدة (كلواني) على الحضور للسودان من وقت لآخر، والنزول في غرفة مخصصة لها باستراحة الشركة كما اعتادت على صحبة ابن اختها (المتهم الثاني) المدعو (اشوك)، وذلك لظروفها الصحية إذ أنها تعاني من داء السكري ومشاكل في القلب ولظروفها المرضية، ولحاجتها لشخص يكون بجانبها لرعايتها، ومساعدتها إذا ما احتاجت لتناول دواء فقد صار أمراً معتادا أن ينام معها ابن اختها (المتهم الثاني) في غرفتها التي تشتمل على سريرين منفصلين بالطابق الثاني من الاستراحة، ولقد ظل هذا الوضع أمراً معتاداً منذ أكثر من خمس أو ست سنوات، وبعلم مدير الشركة السابق المدعو الشاذلي عثمان الخضر، وهو الشاكي في هذه القضية.. وفي المرة الأخيرة حضرت المتهمة الأولى لمقر الشركة بالسودان بتاريخ 12/8/2009م لحل مشكلة بالشركة، وقامت بايقاف المدعو الشاذلي عثمان الخضر من العمل، وذلك ابتداء من يوم13/8/2009 وبعد ست ساعات من قرار الفصل وعند حوالي الساعة 12 منتصف الليل هبت المتهمة الأولى وكذلك ابن اختها المتهم الثاني، ومن كان بالاستراحة مذعورين من نومهم على صوت كسر باب الاستراحة الخارجي، ودخول قوة من الشرطة مدججة بالسلاح قوامها خمسة وعشرين فرداً بقيادة ضابط برتبة ملازم أول، وبرفقة المدعو الشاذلي عثمان، حيث اقتحموا غرفة المتهمة الأولى لينهال المدعو الشاذلي وبعض أفراد تلك القوة بالضرب على المتهمة ثم أخذ مبلغ 5000 دولار امريكي و300 ريال عماني من حقيبة خاصة بالمتهمة الأولى، ومن ثم اقتادوهما الى قسم الشرطة بالخرطوم بحري عند حوالي الساعة الواحدة والنصف من فجر يوم 14/8/2009م ليتم فتح بلاغ ضدهما تحت المادة 154 من القانون الجنائي بحجة انهما قد تم ضبطهما في (منزل) وهما يمارسان الدعارة، علماً بأن المتهمين قد تم اقتيادهما من مبنى استراحة الشركة بذات ملابسهما التي كانا يرتديانها (ساعة المداهمة)، حيث كانت المتهمة الأولى ترتدي لبسة هندية من أربع قطع متمثلة في سروال وقميص ولبسات داخلية.. بينما كان المتهم الثاني يرتدي فنلة (تي شيرت) وبيجامة نوم..(انتهى) وتلكم كانت الوقائع التي أوردها مولانا أزهري مبارك الفاضل قاضي الاستئناف في معرض رأيه بتاريخ 23/8/2012م، وذلك بعد قرار محكمة الموضوع بإدانة المتهمين وتغريمهما مبلغ 500 جنيه لكل وبعدم الدفع السجن لمدة شهر بناء على شهادة زور من أفراد شرطة أمن المجتمع بأنهم قد شاهدوا المتهمين متحاضنين في سرير واحد، ونصفهما الأسفل عارياً، وهو ما فشل الاتهام في إثباته، وبرغم ذلك قضت محكمة الموضوع بالإدانة، ولقد هالني ما قرأته في (الرأي الأول) لقاضي محكمة الاستئناف د. هند علي ابراهيم حمو لما فيه من ضعف في الصياغة القانونية، وضحالة في تحليل البينات المقدمة ولتقاضيها الواضح عن الأخطاء الاجرائية التي صاحبت تنفيذ عملية المداهمة، وأهمها (أمر التفتيش) الباطل فقد كان أمراً مفتوحاً لتفتيش كل منطقة بحري، بلا اسم محدد لمتهم ولا لعنوان محدد، ولقد ذكرني ذلك بشبكة صيد اسمها (أم كبك) وهي شبكة خطيرة وغير قانونية يستخدمها بعض صيادي السمك، حيث أنها تقبض على أي سمكة من أي حجم ومن أي اتجاه تكون سابحة منه أو اليه، ولولا تصدي مولانا أزهري الفاضل لهذا الظلم ولهذا الإجهاض الواضح للعدالة لقلت على قضائنا السلام، ولقرأت الفاتحة على روح العدالة في السودان، إذ أن ما كتبه مولانا أزهري- لا شلت يداه- في معرض تحليله لوقائع وبينات القضية يعد من أروع ما كتبه قضاة الاستئناف، في رأي من حيث الكيوف والوصوف القانونية، وهو محاضرة قيمة تستحق أن تدرس في كليات القانون لما فيها من فن (فلفلة) للبينات وإعمال للعقل واستخدام جيد للذخيرة القانونية واللغوية في كتابة الرأي القانوني، كتابة ذكرتني بكتابات فطاحلة القانون أمثال أبو رنات، ودفع الله الرضي عليهما رحمة الله ورضوانه.. الى أن انتهى رأيه الى أن (ما ترتب على باطل فهو باطل) الى أن قضى ببراءة المتهمين، ولم يكتف مولانا أزهري بذلك بل تعرض للخلل الواضح في عمل ضابط شرطة أمن المجتمع الذي وصفه بأنه قد أساء استخدام السلطة وتجاوز القانون أيما تجاوز، بل وتجرد من كل قيم وأخلاقيات الشرطة بمحاباته للمدعو الشاذلي) الى أن قال فهل هذه هي المروءة والأخلاق السودانية يا ترى؟ وهل أسست شرطة أمن المجتمع لترويع الآمنين الغافلين المستضعفين من النساء والولدان العزل من السلاح يا ترى؟ كما انتقد محكمة الموضوع بقوله (وبذات القدر لا ينبغي أن تكون محاكمنا كذلك ساحات ومسارح لذات الأهواء ومطية سهلة القيادة للتنكيل والانتقام من الخصوم والتشفي، وتصفية الأخطاء والحسابات).. برافو مولانا أزهري.. فقط كان على سيادتكم أن تطلب من السيد رئيس القضاء أن يمنع قضاة المحاكم العامة من اصدار أوامر تفتيش من نوع (أم كُبُك) وأن تطلب منه أيضاً أن يتخذ ما يراه مناسباً مع قاضي محكمة الموضوع لضعفه الواضح وتجاوزاته البائنة عن إحقاق الحق وظلمه لمتهمين بريئين، إذ قلت (وفي تقديري ويقيني أن هناك ظلماً صارخاً وفادحاً حاق بالمتهمين، الأمر الذي يحتم علينا التدخل لإزاحته ورفعه عن كاهلهما)، وذلك أسوة بندائك للسيدين مدير عام الشرطة ووزير الداخلية لاتخاذ ما يرياه مناسباً في حق كل من أخطأ.. فليس أفراد الشرطة وحدهم من سعى للظلم واجهاض العدالة في تلك القضية. خلاصة خاصة بأم وضاح انتهز هذه العودة (عودة ديجانقو) لكتابة خلاصة الحكي من جديد للتعبير عن إعجابي بكتابة السيدة (أم وضاح)، البتقول الكلام الصاح، والتي أعتبرها (ميسي آخر لحظة) إذ أنها دائماً ما تصيب أهدافها في الصميم، وببراعة تحسد عليها بلا تهاتر أو إسفاف، وأحيي فيها شجاعتها، إذ أنها كانت أول من كتب معلقاً على اعتذارالسيد الرئيس لكل من ظلم في عهد الإنقاذ، وطالبت بأن يكون ذلك الاعتذار الشجاع بداية التصحيح لأوضاع المظلومين، ورفع الظلم عنهم ما أمكن، ذلك فلها الشكر والتقدير والامتنان.