استوقفني ما ورد فى الصحف و(النت) خلال هذا الشهر المبارك عن اعترافات وتجارب إنسانية مريرة يمر بها بعض المشاهير. وهى تجارب مريرة لا لسبب، إلا لأنها نتيجة الجرأة فى التمسك بأهداب الدين بعد الندم على ما كان، وفتح صفحة جديدة برغم أن البعض لا يرحم. بعض القنوات والصحف تفضل أن تعالج هذه المرارات فى أجواء الشهر المبارك ونفحاته، وما يشيع من شفافية فى التعامل مع الواقع مهما كان مريراً.. وهذا أقرب الى طابع الشهر كشهر رحمة وتوبة وغفران، كما أن الإعتراف أقرب لطبيعة الإنسان الصائم، وقد احتشدت دواخله بعزيمة التواضع وخاصية التجرد والإفتقار لله كأساس لطلب المغفرة . فى مثل هذا المناخ يحدث تجاوب واسع مع هذه الحالات الإنسانية لنجوم امتلكوا قدرات ابداعية فائقة، جعلتهم محور اهتمام البشر لدرجة التضحية حتى بمتطلباتهم الشخصية، إرضاء للآخرين ومجاراة لإغراءات الدنيا. كثيراً ما أخذت (الحالة) طابع الأوبة والمراجعة للنفس فى عالم يصطخب بالأضواء ومتاع الدنيا، والنجمة العربية المشهورة تتحدث فى وسائط الإعلام بكل صراحة لتقول إنها اهتدت لثقافة الحجاب، حينما وجدت نفسها صدفة ترافق زميلتها المحجبة لندوة دينية استمالت قناعاتها فندمت على ما فات... وقالت ( أنا ما كنتش أعرف، ما حدش قال لي قبل كدة) ونجمة أخرى تحدثت لإحدى القنوات ( نايل لايف) عن دور الشيخ الشعراوي وأفضاله عليها وزميلاتها، وكشفت عن حاجة الناس لمن يؤتمن على أسرارهم ودواخلهم، ويصدقهم القول، ويترفق على ذلاتهم، ولا يسخر من ماضيهم، وقد امتلكوا شجاعة الندم علناً على مساوئه، واعترفت علناً بأنها(تخجل من نفسها، وتعيش حالة من الحزن والندم، من مسلسلاتها وأفلامها، ولا تعرف كيف فعلت ذلك الشىء السيىء، وحصلت على جائزة بسببه). وتكشف سر اهتدائها وهى تحكي قصة تعلمها أمور الدين على يد الشيخ محمد متولي الشعراوي، وقالت إنه كان يخفف عنها دائماً ينصحها ويهون عليها أمر ذنوبها التى كانت تشعر بثقلها. وما يستوقف أكثر هو دور الشيخ الشعراوي من هذا المجتمع الصاخب، إن تقرب أهل العلم من المجتمع وإشاعة ثقافة الأوبة الى الحق هو الوجه الأقرب لحاجة الناس الآن، كل الناس وليس المشاهير والنجوم فقط. ويؤكد ذلك إقبال متعاظم على برامج الفتوى فى القنوات الفضائية، حيث نلاحظ الميل للتجرد والصراحة مع أهل العلم والفقه (على الهواء مباشرة)، من جانب قطاعات اجتماعية عريضة وخاصة الشباب والمرأة، لكنها غير كافية، وإن بشرت المقهورين وبثت الأمل فى صدور المحتارين الباحثين عن صديق مؤتمن له تجربة وعلم. والأجدى هو التواصل إجتماعيا ووجود( جماعة الخير) بين الناس فى كل زمان ومكان، كما كان يفعل الشيخ الشعراوي عليه رحمة الله . فى رمضان تنشط هذه المصارحة من واقع إحساس عميق بأن (بابه فاتح )، وهو جل وعلا بشر عباده فى القرآن الكريم بأنه ( غفور رحيم) واختص الدنيا كلها برسول خاتم (رحمة للعالمين) يخاطب الناس بالتي هى أحسن، و( التي هي أحسن) هذه هى التي تفرق بين داعية يشجع السؤال بلا حرج ليروي ظمأهم من المعرفة بالله وآخر ينذر ولا يبشر، يقول ما لايفعل. الدعاة بأنواعهم متزايدون، ولكن يبدو أن هناك مشكلة كامنة فى(طريقة) إبلاغ الدعوة، لماذا لا يكون الداعية اجتماعياً يمشي بين الناس ليتسنى له الوصول الى قلوبهم ليطمئنهم قبل أن يصل الى عقولهم ليعلمهم، عملاً بسنة الرسول الكريم فى التيسير( يسروا ولا تعسروا) . داعية صديق عند الضيق أو صديق داعية بين الزملاء، خبير اجتماعي متفقه فى الدين وملم بأوضاع المجتمع، ربما كان هو الحل للكثير من المعضلات والأمراض التى باتت ترهق كاهل المجتمع، وهو يتعرض لأعاصير الماديات والمتغيرات بلا هوادة. إن البشريات الروحية تترى فى رمضان لتحاصر الماديات فيتقوى الناس ليلعنوا الشيطان، وقد اتخذ منهم (مجرى الدم ). وهذه الاعترافات والمظاهر الرمضانية الشفافة توحي بأن ثقافة الأوبة الى الله متعاظمة بين الناس استعصاماً بقيم الشهر الفضيل شهر(التوبة والغفران).. فالرجاء أن تبقى بعده وعلى مدار زمان الناس هذا مع تنامى تأثير الصحوة الدينية التى تغشى المجتمع بأسره لتحصن أسواره . لعلنا نتعلم من رمضان كيف نبقى على فضيلة التجرد والأوبة ماحيينا، وأن لا نفعل ما يجر علينا الندم يوماً، ثم لعل ذلك يجعلنا نلاحظ الأثر الإيجابى لإلتفاف الناس حول المبدعين والموهوبين من بني البشر، حيث يبادرون بإظهار وجه آخر لقيم الإبداع التى أودعها الخالق فيهم، وهى قيم الشجاعة والرجوع الى الحق طواعية، كما نلاحظ بكل تقدير الدور الإجتماعي الحيوي للداعية حين يكون قريباً من الناس بعلمه وبمعالجاته الروحية والسايكلوجية. ونختم بشىء من طرائف الشيخ الشعراوي فى ذات السياق... يقال إن الأستاذ توفيق الحكيم إبان مرضه الأخير، رأى الشيخ الشعراوي يزوره فى المستشفى فى المنام، ولم يكن قد حدث بينهما لقاء من قبل، وتحققت الرؤيا وطال اللقاء ثم نهض الشيخ للصلاة وتعذرالحكيم وأسف لكونه لم يشارك فى صلاة يؤمها الشعراوي وفى غرفته، فبادر يقول كمن يعتذر إنه لم يعد يستطيع الوقوف والوضوء، وكأني بالشيخ الشعراوي وجد فرصته فأسرع يقول( ومن أجل ذلك كان التيمم)، وشرح له ذلك ووعده أن يرسل له حجراً طاهراً يتيمم به ويصلي جالساً لو عجز عن القيام ، واستمر الشعراوي ليقول له بطريقته التي نعرفها إن الصلاة عبادة كاملة تجمع كل أركان الإسلام، ففيها الشهادتان والصوم لأن المصلي ينقطع عن الأكل والشرب، وفيها الحج لأن من يصلى يتجه للكعبة حيث يتجه الحجيج، ثم إنه يزكي بوقته للصلاة، ولذلك صارت الصلاة عماد الدين وفريضة يجب ألاَّ تنقطع.