لقد ظلت قضية تقرير مصير السودان الكبير بجنوبه وشماله ومآلات الوحدة والانفصال ومستقبل مناطق النزاع والصراع في أطراف السودان، ظلت جميعاً حكراً على نظر وتقرير النخب السياسية مع غياب كبير للبعد الشعبي والإسهام الأهلي والفعل الثقافي والدور الاجتماعي المؤثر، الأمر الذي انتهى بنا إلى نتائج خطيرة وغير موضوعية. لقد بحت أصوات الدعاة المخلصين وحكماء الأمة الحادبين وبيوت الخبرة والدراسات الإستراتيجية إن خيار انفصال الجنوب المدرج في ذيل اتفاقية نيفاشا إذا وقع سيؤدي إلى نتائج كارثية في ظل التحديات الماثلة والمآلات المحتملة وتعتبر مجرد الدعوة للانفصال سباحة ضد التيار الفطري الإنساني، بل ضد التوجه الدولي والإقليمي الداعي والعامل للتكامل والتعاون بين الشعوب وإحسان إدارة التنوع بين المجموعات السكانية بإفشاء العدالة والتنمية المتوازنة ووضع أسس لكفالة التوزيع العادل للثروات والتوازن الحكيم بين الموارد والطموحات وإشراك المجموعات السكانية المحلية في حكم مناطقهم والإسهام الوطني الأرحب من خلال صيغ الحكم الفدرالي أو اللا مركزية. وأكد الخبراء أن ما يجمع بين أهل السودان في جنوبه وشماله وأطرافه الأخرى أكثر مما يفرق، فالانتماء الوجداني والاجتماعي لكل المجموعات للوطن يبدو من خلال التداخل العرقي والاشتباك المصيري المشترك في التجارة والحدود والموارد الاقتصادية في ظاهر الأرض أو باطنها والمراعي والثروة الحيوانية وغيرها، وقد تأكد هذا الانتماء الوطني الوجداني الفطري من خلال هجرات نزوح السكان المتضررين من الحروب الأهلية والصراعات السياسية إلى داخل الوطن وليس إلى خارجه وقد كتبت في السابق أن حالات هجرات اللجوء إلى دول الجوار من أبناء الولايات الجنوبية أيام الحرب لم تكن إلا عينات مخبرية مختارة بواسطة عملاء الاستعمار لصناعة وتحضير الأزمة وتقديمها كبرهان على الاضهاد والتهجير المزعوم ويمكن أن يقاس على ذلك ما حدث بدارفور. دعونا الآن وقد جاءتنا الفرصة من جديد لمواجهة أقدارنا بشجاعة وإعلاء صوت العقل والحكمة وتجاوز المرارات التاريخية بين الشمال والجنوب من أجل إنجاح اتفاقية التعاون بين دولة السودان والجنوب التي جاءت مسنودة هذه المرة بإرادة سياسية قوية من النظامين الحاكمين في الدولتين وتعاون إقليمي وأفريقي مشهود وتفاؤل شعبي داخلي بالشمال والجنوب، وأهم من ذلك كله ولدت اتفاقية التعاون السوداني الجنوبي من رحم المعاناة والتجربة المريرة التي عاشها الشعبان في البلدين بعد انفصال الجنوب الذي كان عدائياً لأبعد درجة، حيث شرعت الجيوش في العودة إلى الحرب المباشرة ودقت طبول الحرب واشتعلت الساحة الإعلامية والسياسية واستقطاب الرأي العام المحلي والدولي لصالح الإدعاءات في الحدود والعملة والموارد والحقوق والمواطنة، وتحولت البنود العالقة والباقية من اتفاقية نيفاشا لبنود للتفاوض والتخاصم والتنازع دولياً ثم تفشي الغلاء واضطراب الاقتصاد وعانى الناس في الدولتين حتى طمع المتربصون بالداخل في الانقضاض على الأنظمة الحاكمة وطمع الغرب المعادي والصهيونية الماكرة في ابتلاع الفرقاء جميعاً. إن فرصة السلام والتعاون التي لاحت اليوم ينبغي ألا تتسرب من بين أيدينا أو تضيع بأي حال من الأحوال مهما بلغت التحديات بسبب تعويض وكلاء الاستعمار في البلدين أو بسبب أصحاب الغرض والأجندة الصغيرة هنا وهناك الذين دائماً لا ينظرون أبعد من أرنبة أنوفهم أو مواضع أقدامهم. مطلوب من كل الفعاليات الاجتماعية والثقافية والأهلية ومنظمات المجتمع المدني وصناع الرأي العام في البلدين ألا يفوتهم دور الانتصار لقضية السلام والاستقرار والتعاون المشترك لبلدين جمع بينهما التاريخ العميق والجغرافيا المتداخلة والأرحام الموصولة والمصير المشترك في كل شيء. إن قضية التعاون بين الدولتين، بل استهداف عودة الوحدة من جديد بعقد اجتماعي مستوعب للتنوع واستحقاقات الحياة الكريمة والاحترام المتبادل والثقة بين المواطنين تتجاوز الأشواق العابرة والمصالح الآنية إلى درجة الواجب الوطني والضرورة الشرعية، فالأرض خلقها الله للناس جميعاً بصفتهم الإنسانية لا بصفتهم الاعتقادية وقد جعلها الله مكان اشتراك واختلاف بين الناس يسيرون في مناكبها ويأكلون من ثمراتها ويبلون بعضهم ببعض، يقول تعالى: «ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش». إن إعادة وحدة السودان التي ندعو لها ترتكز وتعتمد على قاعدة مبدئية وتنطلق من رؤية شرعية وأخلاقية لا تهتز بالمؤثرات العابرة أو الأغراض الخاصة أو أهواء الاستعلاء والتكبر التي لا تطيق العبر على مخالطة الناس ومشاركتهم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم «الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم». إن التنازلات المتبادلة بين الشمال والجنوب من خلال اتفاقية التعاون في الحدود المرنة أو الحريات الأربع أو تكاليف نقل البترول أو التبادل التجاري وغيرها، تأتي في سياق إستراتيجي ووطني واعٍ يصحح أخطاء الإجراءات الماضية ويعيد الأمور بين الدولتين الجارتين والشعبين الأخوين إلى نصابها وسياغها الطبيعي استهدافاً للجوار الآمن والسلام المستدام والتعاون المنتج، وقد لا يختلف معنا عاقل إن تنازلنا لبعضنا بعضاً اليوم خير من ضياعنا وذهابنا جميعاً غداً تحت سنابك جيوش المستعمرين الجدد.