قلنا في كثير من مقالاتنا إن الغرب أو العالم الأول بقيادة أمريكا يحسب الأمور بمعايير مختلفة عن معايير العالم الثالث، ونحن من هذا العالم الثالث.. العالم الأول يقرر وينفذ وفق حسابات علمية دقيقة معتمدة كاملاً على المصالح، ومبتعدة تماماً عن عاطفة الصداقة أو العداوة الدائمة، ونحن في العالم الثالث وبصفة خاصة في السودان نبني قراراتنا وتوجهاتنا اعتماداً على «شخصنة» الأمور (subjective) خصماً ضاراً على النظرية الموضوعية (objective) التي تلمس جوهر الأزمة بعيداً عن الأشخاص، ودائماً تبني القرارات على نظرية المؤامرة والتي في كثير من الأحيان غير موجودة، وغالباً ما نرفض أشياءً في صالحنا بالخوف من المؤامرة. العالم الأول الآن أصبح واقعياً وقوياً، بفضل التقدم التكنولوجي الهائل في الاتصال والوصول ، وأصبح العالم الآن منزلاً كبيراً بعد أن كان قرية صغيرة قبل ثلاثين عاماً، لذلك لا يحتاج هذا العالم الى التآمر والدخول من المنافذ، إذ في مقدوره الوصول الى أهدافه عبر البوابات الكبيرة في كل الدول الصغيرة وصولاً سهلاً عسكرياً، سياسياً، اقتصادياً أو اجتماعياً.. تآمر العالم الأول على الاتحاد السوفيتي قبل أكثر من ثلاثين عاماً، لأن الاتحاد السوفيتي كان نداً قوياً لهم تمكنوا من التآمر عليه اقتصادياً واجتماعياً حتى نجحوا سياسياً في إعادته الى دوله السابقة.. أين نحن من ندية وقوة الاتحاد السوفيتي حتى يتآمر علينا العالم الأول.. حافظ هذا العالم الأول على العقيد القذافي لاربعة عقود من الزمان، حافظ عليه بكل اخطائه وسلوكه الغريب لحاجة تساير مصالحهم في المنطقة العربية والافريقية، وهي خلق بؤرة خلاقة للتوتر الدائم في المنطقة «خميرة عكننة» حتى تضعف دول المنطقة ولا تتوحد أمام اسرائيل التي تكتسب قوتها من ضعف وتشتت قادة الدول العربية فيما بينهم.. قررت هذه الدول في العالم الأول اسقاط أقوى وأعظم وأحسن نظام عربي هو العراق ورئيسه الوطني الشجاع صدام حسين عليه رحمة الله، وأسقطته في أيام قلائل بل ساعات، ثم قررت التخلي عن القذافي بعدما نالت ما تريد منه من تفتيت للدول العربية وقادتها، وتدخلت عسكرياً بدولة واحدة فقط هي فرنسا وبسلاح واحد فقط هو سلاح الجو، وأسقطت القذافي وقتلته في أيام قليلة تحت مظلة الفصل السابع وبقرار من مجلس الأمن مثل القرار 2046 الخطير بدرجة متساوية لدولتي السودان وجنوب السودان.. أمريكا والعالم الأول لا يتآمرون على السودان وليسوا في حاجة الى التآمر الطويل لإسقاط النظام، ودونكم ثلاثة أحداث مهمة ذات مدلولات واضحة حدثت في أوقات متفرقة طوال العشرين عاماً الماضية، ضرب مصنع الشفاء بكل دقة بواسطة الصواريخ «توما هوك»، قرصنة اسرائيل الجوية في بورتسودان المتكررة حتى سرت، النكتة الشهيرة أن سكان بورتسودان أصبحوا عندما يريدون عبور شارع يلتفت الواحد منهم شمالاً ويميناً ثم ينظر الى السماء، بعد ذلك يعبر الشارع.. والثالث هو ضرب مصنع اليرموك.. قلنا في مقال سابق إن أمريكا لا تريد إسقاط النظام الحالي لأن مصالحها في بقاء السودان في تماسكه الحالي، بل أن أمريكا في وقت من الأوقات لم ترد فصل الجنوب.. أمريكا لها مصالح في السودان في أرضه وفي وضعه الجغرافي كنقطة ارتكاز مهمة في وسط أفريقيا والقرن الافريقي بصفة خاصة.. السودان سيكون معبراً مهماً لخط أنابيب قارياً لنقل البترول عبر الكاميرون الى ساحل الاطلنطي المقابل لأمريكا، بديلاً عن خطوط البترول في دول الخليج ومنطقة الشرق الاوسط الملتهبة الآن وتدري أمريكا مآلات هذا الالتهاب في المدى القصير والمتوسط- اي بين عشرة الى ثلاثين عاماً- السودان هو النافذة الاستراتيجية المطلة على بترول الخليج، وهو السهول المسطحة المناسبة لتغطية أكثر من نصف المسافة الى ساحل الكاميرون، لإنشاء الخط القاري لأنابيب البترول.. السودان يملك ثروات في باطن الأرض هائلة من البترول والمعادن النادرة والمهمة، يعلمها الأمريكان بكل تفاصيلها وكمياتها ومواقعها.. عليه يجب أن ندرك والأهم من الإدراك هذه الاستفادة القصوى من أن أمريكا لا تريد إسقاط النظام لأسباب عدة منها ما ذكرنا سالفاً، وأن نسعى الى التصالح معهم والتعامل معهم بنفس فلسفتهم وهي المصالح وأنه لا توجد صداقة دائمة أو عداوة دائمة، لكن الدائمة هي المصالح، وهي وبكل المقاييس نقطة الضعف في السياسة الأمريكية الثابتة غير المتأثرة بمن يحكم أمريكا هي ليست سياسة رئيس أو حزب أمريكي، بل هي استراتيجية يسير عليها كل من يحكم أمريكا بغض النظر عن أنه جمهوري أو ديموقراطي.. أدعم ما ذكرت في الأسطر الماضية بهذه الأدلة الحديثة جداً: أولاً: تصريح المندوب الأمريكي ليمان لجريدة الشرق الأوسط يوم 2/1/2013 الذي أكد فيه أن تقسيم ما تبقى من السودان ليس من ضمن أجندة واشنطن.. وقال إن اتفاقية السلام دعت الى دولة أو دولتين ولم تذكر ثلاثاً أو أربعاً وقال «نحن نريد السودان مستقراً ومزدهراً» بل زاد بأن نصح المعارضين بالعمل على التغيير بالطرق السلمية على أن تبني الحكومة مؤسسات تضمن للمعارضين التغيير بطرق سلمية، وهي بمعنى أدق بقصد التداول السلمي للسلطة عبر انتخابات حرة نزيهة، وهو نفس القول الذي يكرره هذه الأيام قادة الحكم والمؤتمر الوطني.. هل بعد هذه الافادات الرسمية التي تمثل توجه أمريكا الاستراتيجي يحق لنا أن نقول أمريكا تتآمر وقد دنا عذابها.. أمريكا إذا أرادت التغيير بأي شكل وفي اي وقت لا تحتاج الى إذن أو تآمر، ولو كان في أجندتها تغيير النظام لاختارت هذه الأيام. ثانياً: أصدرت ترويكا السودان «ترويكا كلمة من دول شرق اوربا تعني العدد ثلاثة، مثل كلمة البنتاغون وهي تعني في الاغريقية الرقم خمسة، والبنتاغون مبنى وزارة الدفاع الأمريكي ومساحته 600 الف متر، والبناء فيه على شكل خمسة أضلاع، وبه خمس طوابق، وبه ساحة في الوسط خماسية الشكل».. ترويكا السودان وهي أمريكا، بريطانيا والنرويج أصدرت بياناً موقعاً من وزراء خارجية تلك الدول في يوم 3/1/2013 ترحب فيه باجتماع البشير وسلفا كير يوم الجمعة 4/1/2013 باديس ابابا، وتناشد فيه الرئيسين في سبع فقرات بالوصول الى اتفاق كامل حول القضايا العالقة، خاصة مسألة نقل البترول، وإعادة تصديره عبر السودان دون التوقف، أو ربط ذلك بشروط مسبقة لمصلحة اقتصاد البلدين، الذي انهار بدرجة مخيفة تنذر بالتلاشي وضياع الدولتين.. قطعاً أمريكا أو بريطانيا أو النرويج ليست لها مصالح مباشرة أو مفيدة لها من عائدات البترول الذي تستفيد منه الصين العدو المشترك لهم.. تختم الترويكا بيانها بالقول «إننا نذِّكر الدولتين على أن المجتمع الدولي يريد أن يرى السودان وجنوب السوداني يعيشان مع بعضهما البعض في سلام، وأننا نحث بقوة رئيسي الدولتين على انتهاز فرصة اجتماع القمة في 4 يناير لتنفيذ التزاماتهما، والاتفاق على العيش سوياً في سلام».. انتهى «هل بعد ذلك أكون لسهام نواك أهداف» كما قال الشاعر الراحل عبد الرحمن الريح في رائعته انصاف»..