ما الفائدة من جولة جديدة بين السودان ودولة جنوب السودان حول قضية النفط؟ لم يعد هناك ما يَتفاوض حوله وفدا البلدين، لقد أغلقت جوبا صنبور نفطها، وقررت الخرطوم أن الزيت الأسود لن يمرَّ من هنا دون أن تدفع رسوم عبوره والرسوم الأخرى.. رُفعت الأقلامُ وجفت الصحف .! خرجت القضايا الأخرى لساحة المقايضة، ومكانها ليس قاعة التفاوض في العاصمة الإثيوبية، التي ستشهد فقط مناقشات حول كيفية التعاون في المسألة النفطية، فلا الخرطوم ستقبل بإقحام الخلافات الحدودية ولا أبيي ولا القضية الأمنية في باقة المقترحات التي تحاول اللجنة الإفريقية رفيعة المستوى برئاسة الرئيس الجنوب إفريقي السابق ثامبوأمبيكي، الإبقاء عليها نابضة وعلى قيد الحياة وعدم ركلها مثل ما حدث في المرات السابقة. إذا كانت الجولة السابقة للمفاوضات بالرغم من ترفيع شأنها والدفع بطاقة نووية رئاسية لإنجاحها، لم تلفح في الطيران والتحليق من محطتها التي هي فيها، فكيف بها الآن ستكون وسط عاصفة التصريحات والتوترات والتراشق بالدعوة للاستعداد للحرب، وهطول الاتهامات الجزافية الفارغة المحتوى من حكومة دولة الجنوب للقيادة السودانية؟؟. من العبث فعلاً ذهاب الوفد الحكومي في مثل هذه الأجواء التي لن يتحقق فيها شيء ولا تستطيع بكل حقائق الأشياء ومنطقها، أن تتظلل هذه الجولة التي ستبدأ اليوم أو غداً برهو رقيق من سحاب التوفيق، فالخطوات متباعدة، وعمى البصر والبصيرة يغشى عيون وأفئدة حكام الجنوب فاقدي الخبرة والدراية بمصالحهم الحيوية، وليس ثمة من بارقة تسطع وتبرق في سماء هذه الجولة، ولا ينبغي تضييع الوقت في ما لا طائل تحته، لقد تجاوز الشعب السوداني هذه المحطة الباهتة والمكان القفر والكرة ليست في ملعبنا نحن، الكرة بين أقدام سلفا كير وحكومته، إن قبلوا بشروطنا وبالاتفاقية الانتقالية السابقة وحصر الجولة في مسألة الموارد النفطية فقط، فأهلاً وسهلاً..، وإن لم يقبلوا فمع السلامة ويا دار ما دخلك شر... ولسان الحال يقول: «الصيفَ ضيِّعت اللبن». مؤتمر التعليم... يا خوفَ فؤادي من غدِ ..!! يلتئم وسط اهتمام كبير المؤتمر القومي للتعليم خلال الأسبوع القادم تحت شعار: «التعليم صناعة المستقبل»، وهو عمل ضخم ومصيري، ظل يترحل من ميقات لآخر حتى حطّ أخيراً في هذا الشهر بعد إعداد وتحضيرات ظلت تتكاثف وتترى خلال الأشهر الماضية بغية خروج مؤتمر التعليم في البلاد وفي طياته كل قضايا التعليم وفي معالجاته درء لكل تحدياته، وتحتاج العملية التعليمية منذ انهيار التعليم التدريجي لرؤية عميقة وسياسات أعمق وإرادة سياسية لإقرار الإصلاح الضروري الذي يجعل من عصرنة التعليم وتطويره ومعالجة اختلالاته ضرورة لازمة وفرض عين. وليس المطلوب من هذا المؤتمر فقط مراجعات شاملة لهياكل التعليم العام وإعادة النظر في السلم التعليمي والمناهج واستحداث تشريعات وصياغة التعليم في السودان العام والعالي على أسس جديدة ومتينة تعالج اعتلالاته وبما يحقق الغرض منه في خدمة الاحتياجات الفعلية للبلاد. ونحن نعلم حجم الانهيار والتردي الذي لحق بالتعليم والمعلمين والظلم الفادح الواقع عليهم، فإما أن يخرج هذا المؤتمر بفائدة شاملة تغطي الجانب الهيكلي الإصلاحي للعملية التعليمية وتدفع بتطوره وتضع الحلول المعقولة لوضع المعلمين وبيئة العمل...أو يكون مثل غيره من المؤتمرات القطاعية السابقة في مجالات مختلفة حوتها أضابير الإهمال والنسيان. وقد يكون حديث وزيرة التربية والتعليم ووزير التعليم العالي، يقف على منصة جديدة ومطمئنة، بأن المؤتمر سيفرز آلية قوية لمتابعة تنفيذ توصياته التي تتدرّج من عامي 2013 و2014م ولن توضع التوصيات على الرفوف كما قالت الوزيرة وأشار الوزير. الكل يعرف ما هي قضايا التعليم وتحدياته في السودان وهناك سبعة ملايين طالب وطالبة في مؤسسات التعليم العام والعالي، على حافة الانتظار ومعهم الشعب السوداني المتطلِّع ليرى تجربة التعليم تتطور وتلحق بركب الدول التي طورت تعليمها ومناهجها وصارت في مصاف الترقي والازدهار. شلقم.. وأشخاص حول القذافي ليومين انقطعت صلتي بالعالم الخارجي وغُصت في عمق عالم غريب أشبه بالفضاء الأساطيري وأنا بين مصدِّق ومكذِّب، وعشت مع خمسمائة وخمس وثمانين صفحة ألتهمها سطرًا سطراً وحرفاً حرفاً، هي كتاب «أشخاص حول القذافي» لمؤلفه وزير الخارجية الليبي الأسبق ومندوب ليبيا الحالي في الأممالمتحدة ورفيق القذافي لأكثر من أربعين عاماً الأستاذ عبد الرحمن شلقم، وأرسل إليّ الكتاب من بيروت الأخ العزيزالصديق الدبلوماسي الهادي صديق نائب رئيس بعثتنا الدبلوماسية في لبنان فور صدور هذا السِّفْر الضخم الممتع. هو من أمتع الكتب وأكثرها إثارة صدرت مؤخراً، لأنه المحاكمة السياسية والأخلاقية لنظام القذافي الذي جثم على صدر الشعب الليبي 42عاماً، وبرع شلقم بخبرته السياسية ومهنته الأصيلة كصحفي وإعلامي حاذق في نسج الوقائع والأحداث والأسرار ودقائق وغوامض ما حدث في ليبيا لما يزيد من أربعة عقود من خلال تشريح متقن ودقيق ولصيق لأهم الأشخاص الذين كانوا مع القذافي خلال فترة حكمه وبقوا معه حتى انهيار المعبد على الجميع. في الكتاب الذي لم يكن سيرة ذاتية ولا فحصاً مجهرياً لتسعة وثلاثين من الرموز والقيادات السياسية في نظام القذافي الذين وردوا في الكتاب، إنما هو تتبُّع تاريخي ورصد دقيق لكل مراحل حكم القذافي وأسرارها وتفاصيل نظام حكم معقد التراكيب، غريب غرابة قائده ومن عملوا معه، ومؤلف الكتاب هو جزء من هذا النظام وفارقه في لحظة حاسمة بعد اندلاع الثورة الليبية، كشف الغطاء عن كل شيء الخاص والعام وتداخلهما في صناعة القرار في ليبيا القذافي والعلاقات المتقاطعة والمتاهات والدروب اللولبية الضالة والمضللة وخفايا لا يمكن معرفتها إلا لمن عاش الوقائع والأحداث وكان قريباً من نبضها وصناعتها مثل شلقم نفسه. استطاع كالروائي البارع وبلغة مشوِّقة وباهرة ومعلومات مدهشة وصياغة سلسة تقديم صورة من الداخل لحكم القذافي تجعل القارئ يحبس أنفاسه، كانت الوقائع والشخوص تتحرك أمامه ورائحة الدم والقتل والمؤامرات وفساد الحكم والبطانة والعمالة والخيانة تحيط به من كل مكان. ووجد الكتاب صدىً واسعاً في نفسي وعقلي لمعرفتي الشخصية ببعض من تناولهم الكتاب، فكل من عاش في ليبيا وعرفها يجد نفسه مشدوداً إلى حبال كلمات شلقم التي أرى أنها كتبت بدمه وغمس قلمه في محبرة قلبه وحسرته وفجيعته في أربعين عاماً عاشتها بلاده وهي تخوض في برك الدماء والسأم والفساد والفراغ. حديث كيسنجر... تخريف أم حقيقة وصفوه بأنه ثعلب السياسة الخارجية، اليهودي هنري كيسنجر أشهر وزراء الخارجية الأمريكية في كل الحقب، الذي تولى قيادة الدبلوماسية في بلده مطلع السبعينيات وخلال حرب أكتوبر، وظل فاعلاً في السياسة الدولية بتحليلاته وقراءاته ونبوءاته التي تخيب وتصدق. بمناسبة عيد ميلاده التاسع والثمانين أجرت معه صحيفة « الديلي سكوب» في نيويورك، حواراً حول الأوضاع العالمية لأهمية ما قاله وفيه خطرفات وأحاديث مخرّف في بعضه لكنه مهم من الناحية الإستراتيجية، وهذا ملخص ما فيه: «إن ما يجري حالياً هو تمهيد للحرب العالمية الثالثة التي سيكون طرفاها هما روسيا والصين من جهة والولاياتالمتحدة من جهة أخرى، ستكون تلك الحرب شديدة القسوة، بحيث لا يخرج منها سوى منتصر واحد هو الولاياتالمتحدة من وجهة نظره. إن واشنطن تركت الصين تعزز من قدراتها العسكرية وتركت روسيا تتعافى من الإرث السوفييتي السابق، مما أعاد الهيبة لهاتين القوتين، لكن هذه الهيبة هي التي ستكون السبب في سرعة زوال كل منهما ومعهما إيران التي يعتبر سقوطها هدفاً أولَ لإسرائيل. إن إدراك الاتحاد الأوربي لحقيقة المواجهة العسكرية المحتومة بين أمريكا وكل من روسيا والصين المتباهيتين بقوتهما، دفعه للمسارعة بالتوحُّد في كيان واحد متماسك قوي. إن الدوائر السياسية والإستراتيجية الأمريكية طلبت من العسكريين احتلال سبع دول شرق أوسطية من أجل استغلال مواردها الطبيعية خصوصاً النفط والغاز، مؤكدًا أن السيطرة على البترول هي الطريق للسيطرة على الدول، أما السيطرة على الغذاء فهي السبيل للسيطرة على الشعوب. إن العسكريين الأمريكيين حققوا هذا الهدف تقريباً أو هم في سبيلهم إلى تحقيقه استجابة لطلباتنا. وبقي حجر واحد علينا إسقاطه من أجل إحداث التوازن، وهو المتمثل في إيران. الدب الروسي والتنين الصيني لن يقفا موقف المتفرِّج ونحن نمهد الطريق لقوتنا، خصوصاً بعد أن تشن إسرائيل حرباً جديدة بكل ما أوتيت من قوة لقتل أكبر قدر من العرب. وهنا سيستيقظ الدب الروسي والتنين الصيني، وقتها سيكون نصف الشرق الأوسط على الأقل قد أصبح إسرائيلياً، وستصبح المهمة ملقاة على عاتق جنودنا، وأقصد هنا الأمريكيين والغربيين بصفة عامة، المدربين جيدًا والمستعدين في أي وقت لدخول حرب عالمية ثالثة يواجهون فيها الروس والصينيين. ومن ركام الحرب، سيتم بناء قوة عظمى وحيدة قوية صلبة منتصرة هي الحكومة العالمية التي تسيطر على العالم. ولا تنسوا أن الولاياتالمتحدة تملك أكبر ترسانة سلاح في العالم، لا يعرف عنها الآخرون شيئاً، وسوف نقوم بعرضها أمام العالم في الوقت المناسب!». هل هذه تخريفات للرجل أم أنها توجهات للسياسة الأمريكية التي تحاول إيهام العالم بقوتها وسطوتها وأوهام القوة والانتصار؟!.