وعطفاً على ما سبق فإن الهشاشة في الفكر والثقافة قد استهدفت جيلنا اليوم وجعلت لديه مساحة كبيرة لدخول متغيرات في السلوك العام بما في ذلك الزي السوداني المعروف بحشمته وتميزه.. فأصبح ثوبنا في تبارٍ مع الأزياء العالمية في التبرج وإظهار المفاتن ..! وقد كان لذلك أثره على العادات والتقاليد.. هذا إلى جانب استهداف أدبنا السوداني وأغنيتنا السمحة وتراثنا العميق.. فتغيرت كلمات اللغة وانحط التعبير واقتحمت لغتنا مصطلحات وألفاظ جديدة لم يعرف لها أصل ولا تنسب لمصدر معروف وانتشرت هذه الكلمات في المجتمع.. فمثلاً يقولون هذا «ماسورة».. وهذه الكلمة تفسر على حسب الموقع والمناسبة التي تقال فيها.. وهذه المصطلحات منبعها الأساسي الخواء الفكري وسيطرة السطحيين على المجتمع.. وللأسف الشديد حتى المثقفين منا يروجون لهذه الثقافة المختلة..! كثيرة هي مظاهر الهشاشة في مجتمعنا السوداني.. منها أن بعض العرسان يزفون بالسيرة المصرية في ليلة زفافهم وهذا اعتراف ضمني بأصالة وتجذر التراث المصري وهشاشة انتماء هؤلاء للأدب والعادات السودانية..وبذلك أصبحوا يشعرون بأن هذا هو أس الثقافة والحضارة.. وهذا يعني «عندهم» أن الذي يزف «بالعديل والزين» «رجعي» وغير مواكب..! ولا يختلف الأمر في حفلات التخرج التي ينظمها الخريجون.. فيختار كل واحد منهم أغنيته التي تمثل شيئاً ما لوجدانه.. فالملاحظ أن غالبيتهم يتخرجون بأغانٍ أجنبية..فالبعض يختار أصالة نصري وآخرون مع شاكيرا..! ويضاف إلى ذلك أن بعض الشباب يلقون اللائمة على الأغنية السودانية ويتهمونها بالقصور الكبير وربما كان الأمر في جوانبها الإبداعية من حيث اللغة والكلم أو من حيث جوانبها الموسيقية والفنية.. وسألت بعض الطالبات الجامعيات عن أغانٍ وطنية معروفة.. سألت عن من هو الشاعر؟ ومن هو المغني؟.. فكانت الإجابة مفاجئة بالنسبة لي بأنهن لا يستمعن مطلقاً للأغاني السودانية.!. إنما يحبذن الاستماع للأغاني العربية والغربية.! ويكفي أن يتمايلن طرباً مع هذه الأخيرة دون الاهتمام بالنص وفهم معانيه!.. وهذا يعني أن البلاد موعودة بجيل لا يعرف «كل أجزائه لنا وطن».. ولا يعترف بعمالقة الفن والكلمة مثل الراحل محمد أحمد عوض وأبو داؤود والعطبراوي والكاشف وسيد خليفة وغيرهم من الأفذاذ الذين صنعوا التاريخ وسطروا أدب وثقافة هذه البلاد..! رسالتي هنا إلى هذا الجيل بأن يحصِّن نفسه بهذه الثقافة السودانية.. فهي بحر تشرب منه أعظم الرواة والأدباء والعلماء من خارج البلاد.. وهذه العادات السمحة التي يتمتع بها شعبنا من أعظم الثروات إذا ما استغلت استغلالاً أمثل.. وشعب بلا تراث.. فهو مجهول الهوية ومهما فعلنا وقلدنا الآخرين فلن نصبح آخرين.. والمؤسف أن من بيننا من يذهب إلى مصر مثلاً لقضاء رحلة علاجية يأتي بعد أيام وهو يتحدث اللهجة المصرية.. بينما يقضي المصريون سنوات هنا في السودان ولا يخطئون في تغيير لهجتهم.. فلماذا نتقمص لغتهم ونتشبه بهم وهذا الضعف ناتج من هشاشة ثقافتنا وإيماننا بأشيائنا..! إذا لم نقيّم نحن ثقافتنا فالأولى للآخرين أن يتجاهلوها ويعتبروننا جدولاً لا ماء فيه.. وبذلك نذهب إلى الحضيض ..! في وقت تنهض فيه الأمم.. وها هي الساحة العالمية تشهد كل يوم سباقاً شديداً في إثبات ذات الدول وهي تقدم ثقافاتها في ثوب عالمي جديد.. ونحن نهتم بالتقليد والمحاكاة التي نفشل فيها من أول وهلة.. فلماذا نقود أنفسنا للفشل؟! ختاماً نهضة الأمة لا تنبني إلا ببناء البشر ثقافياً وفكرياً.. وهذا البناء يحتاج إلى دور من الأسرة فهي التي تكون شخصية أبنائها حتى يتربوا على حب الوطن مع ضرورة أن يتصالحوا مع ثقافاتهم وتراثهم.. كما أن مناهج التعليم مطالبة بالتأسيس لذلك حتى لا يخيم الخواء الفكري على أجيالنا في المستقبل. والله ولي التوفيق..