ليلة حفتها الرحمة وتلألأت بأنوار الحكمة وازدانت بحضور جميل منسجم متناغم على كثرته وتعدد ألوان طيفه، وتنوع الأزياء والأشكال.. ليلة تجسدت فيها المعاني، وتوالت فيها الرسائل الموحية، وتواصلت فيها القلوب، وكان الإرسال بلا عوائق، والإطار فخيم منظم، ينم عن ذوق رفيع، وأدب جم متوارث.. تلك الليلة الاستثنائية هي ليلة الأخوة الاقباط في مناسبة إفطارهم الرمضاني السنوي، تكريماً لأهل السودان قاطبة، بدعوة فخامة الرئيس عمر البشير للإفطار في شهر رمضان في كل عام، وكان إفطار هذا العام يوم الاثنين- أول أمس- بالنادي القبطي بالعمارات.. ولقد سعدت وغيري من الحضور بخطاب الأخ الرئيس البشير في تلك الليلة، الذي استوحى من المكان، والزمان، والمضيف، والحضور خطاباً، ليس مثله وقل نظيره، فجاء خطاباً فريداً ملهماً موحياً، يشع حكمة وبهاء وحنكة وظرفاً، فكان في فقه السياسة ومحيطها اللجي تأكيد الرئيس البشير لمبدأ الالتزام بالعهود التي لم تتنازل عنها الإنقاذ منذ إشراق فجرها في 30يونيو 1989، وكان السلام هو الهدف المنشود والأمل المرتجى منذ بيانها الأول، لقد تأخر السلام كثيراً ولكن جاء أخيراً لتتوقف الحروب في الجنوب، ويبدأ السودان عهداً جديداً من الاستقرار.. وجاء خطاب الرئيس ببرنامج عمل وملامح مستقبل مبشر بالوحدة والأمان.. لقد دعا الرئيس في خطابه كل السودانيين بلا استثناء وخاصة من لديه مايقدمه من أجل وحدة السودان، أن يبادر بتقديم ما يقدر عليه، وأن ينطلق نحو الجنوب لتحقيق الوحدة، لأن تحديد مصير هذا البلد سيتحقق من داخل الجنوب، وليس من الشمال، حيث إن السودان مازال بلداً واحداً موحداً، فليس هناك ما يمنع أن تنطلق الحملات والمبادرات الداعمة لوحدة السودان من داخل الجنوب، وأشار الرئيس ضمن العديد من إشاراته الذكية واللطيفة في خطابه المهم والفريد، إلى أن خريطة السودان تلك الجميلة التي لا يوجد مثلها جمالاً بين خرائط دول الدنيا كلها، يجب أن تبقى كما هي دون تغيير ودون إنفصال وتقسيم..! ابتدر الرئيس خطابه في تلك الأمسية الرائعة من أمسيات رمضان في حضرة كبار رجال الدين الأقباط، وأبناء الطائفة القبطية بقراءة آيات مباركات من سورة (مريم)، من الآية رقم(16).. وأذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً.. ثم قرأ الأخ الرئيس آيات من سورة آل عمران.. الآية رقم (42) وإذ قالت الملائكة يامريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين.. وأشار إلى محبة المسلمين للسيدة مريم العذراء البتول، وإن القرآن الكريم انفرد بسورة سُميت مريم تقديراً ومحبة للسيدة مريم العذراء الطاهرة.. وقال الرئيس إنه سعيد في هذه الليلة لعدة أسباب منها أن الأخوة الأقباط قد أكملوا يوم السبت 21أغسطس-يوم أمس-صيامهم وأن هذا الأحد يوافق يوم عيد السيدة مريم العذراء، كما أعرب عن سعادته بوجود الأنباء دانييل السوداني المقيم في استراليا بيننا اليوم، وقال إن الانباء دانييل وهو أسقف سيدني وتوابعها، عندما علم بزيارتي لأندونيسيا زارني في جاكرتا قادماً من استراليا ليسلم علي ويطلعني على أحوال الجالية السودانية هناك.. وتطرق الرئيس لكلمة القاها الأنباء صرابامون اسقف ام درمان وتوابعها عن الصيام في الإسلام، وقال لقد تمنيت لو أن كلمة الانباء صرابامون نقلت في كل إذاعات وفضائيات السودان.. وقال إن الذي يسمع تلك الكلمة ولا يعرف الأسقف ليظنه مسلماً.. لقد نظر الأخ الرئيس في تلك الجموع الحاشدة التي اكتظت بها حديقة النادي القبطي على سعتها ورأى فيها ملامح سودان واحد موحد، جميل برموزه وألوان طيفه، وكلهم ملسمون ومسيحيون على قلب رجل واحد، فجاءت كلمته الحكيمة المؤثرة المنفعلة بهذا المشهد وهذا الحدث، برداً وسلاماً ويقيناً على الحاضرين، فتجاوبوا معه بعقولهم وقلوبهم ومشاعرهم.. والليلة في مجملها كانت عامرة بفيوضات الحكمة والموعظة الحسنة فقد قدم الأخ الدكتور(الباحث) أزهري التيجاني وزير الإرشاد والأوقاف كلمة رصينة العبارة، دقيقة في مفرداتها، مراعية للمكان والمناسبة، منسجمة في إطار ذلك التعايش الرائع بين أهل السودان، مشيداً بدعوة الأقباط السنوية لإفطار رمضان، حيث أصبحت علامة مميزة ودعوة لا ترد، ومن لطيف تقديمه شكره للضيوف الحضور باعتباره من أهل البيت، وذلك لطف جميل تعودناه من الوزير، الذي مازال يجد نفسه باحثاً قارئاً رغم مشاغل وتبعات العمل الوزاري والتنظيمي، وفي مستهل الحفل عقب الإفطار جاءت كلمة الانباء ايليا اسقف الخرطوم وتوابعها، لتبدأ مسيرة الحكمة والتأمل في تلك الليلة التي شهدنا فيها إن الاسلام والمسيحية في السودان ينهلان من نبع واحد، وإن أهل السودان هم أهل محبة لأن الله محبة.. ولن يزدهر هذا الوطن الحبيب إلا بالمحبة والتسامح، وتلك ميزة هذا الشعب الذي لم يستطع أعداؤه رغم كل المحاولات المستميتة أن يبذروا فيه بذور الشقاق والفتنة، فلقد ظل وسيظل عصياً على كل محاولات إشعال الفتنة والبغضاء والكراهية بين أبنائه.. وكما قال الرئيس فمهما كثرت المشاكل فإن برلمان الشجرة هو الجدير بحلها.. و(إن الخوة الحلوة تأتي بعد الدواس).. تحية وتقدير لأبناء الطائفة القبطية على كل مبادراتهم التي تعبر عن روح التسامح والأخوة مع أخوانهم في البلد والوطن الواحد.. وأنا واحد من كثيرين عشنا طفولتنا وصبانا مع أبناء الطائفة القبطية في مدينة شندي، ومازال صديقنا الدكتور الصيدلاني نسيم هابيل هو مركز تجمعنا في عيادته في مدينة شندي، ومازلنا نتواصل مع جورج نظير، ونسأل عن أخبار ميلاد سعد في أمريكا ومازلنا نسعد بجوار الأستاذ فيكتور صموئيل جرجس، ونشهد بسعة صدره ومحبته التي تنطق بها ابتسامته.