يوم أمس كان «تاريخياً» بكل المقاييس في الخرطوم.. وعندما يكون الحدث بهذا المستوى فأنا أحرص على أن أعيشه بكل «أحاسيسي» الخاصة متحسساً نبض الشارع وتفاعله مع ما يجري!! أترك في مثل هذه الحالة لنفسي العنان للتحرك بسهولة ويسر بين الثنايا والتفاصيل.. أتحدث مع هذا.. وأرخي أذني لهذا.. أتوقف عند المشهد الذي يستحق التأمل.. ولا استعجل !! جبت المدينة.. «المطار».. ومداخل بحري.. منزل الراحل محمود عبد العزيز ومقابر الصبابي بالخرطوم بحري في الهزيع الأخير من الليل.. وشوارع المدينة التي اختفت أغلب «محركاتها» واقتصر التحرك على الراجلين بالأقدام والمآقي والدموع!! ü أحد الشباب قال لي إنه قدم من منزل محمود إلى المطار «راجلاً» وفعل ذلك في رحلة العودة إلى المزاد وعندما علم أن الجثمان ذهب مباشرة من المطار إلى المقابر واصل طريقه ومعه رفاقه مباشرة إلى هناك!! امرأة قالت إن ولديها أغمي عليهما وتركتهما بالمنزل وجاءت لتعزي بنفسها!! ü هل نظلم الذي جرى أمس في الخرطوم ونقول إنه يخص الشباب وحدهم؟!! الإجابة نعم.. فكل الفئات العمرية المختلفة من قطاعات الشعب السوداني كانت هناك وخرجت تبكي لوعتها وفقدها «لمحمود الشعب». أحد التأملات في مشهد الأمس تمنح «شهادة احترام» للجهات المسؤولة التي أشرفت على تأمين العاصمة و استعدت باكراً بكل الآليات والذهنية لهذا الحدث.. ولهذا التدافع.. والذي أجزم بأنه سيكون «كارثياً» لو حدث جزء من الخطأ من الثانية لوقف هذا الزحف البشري المتواصل!! ليس في الإمكان أحسن مما كان واستطاع الجميع «رغم الأخطاء والهفوات» إخراج «أصعب يوم» في تايخ العاصمة إلى بر الأمان والسلامة!! ü كل الناس اتفقوا على جماهيرية «الحوت» وتفرده و«إبداعه» و«إنسانيته».. أما الاتفاق الجديد مفاده أن هذا الشعب العظيم يعرف طريقه دون و«صايا» أو «تنظيم» للذي يحبه ويعمل بإخلاص من أجل إسعاده.. والتعبير بهذا «الاحتراق الاستثنائي» الذي نفذه محمود عبد العزيز على مدى هذه السنوات من عمر الفن.. واستطاع أن يكتب بخط يده ودموعه «ونزفه» اسمه في تاريخ الإبداع السوداني والإنساني!! ü أمس جاءتني في تلفوني رسالة من مركز كومون الإعلامي تحوي استبياناً حول تداعيات وفاة الفنان محمود عبد العزيز - رحمه الله - في الشارع السوداني وتسأل ما هو «رأيك» في هذا التجاوب الطبيعي مع مبدع له عطاء استطاع أسر الجماهير!! والإجابة هي أن محمود عبد العزيز كان موفقاً في التقاط كلمة السر بينه وبين نبض الشارع. ü محمود جاء من هؤلاء وغنى لهم وأبكاهم «وأشجاهم».. الآن محمود عبد العزيز في رحاب الله.. وبرحيله المر أعاد إنتاج دور جديد للفن يتخطى نقطة «هدهدة» المشاعر وكنز «القروش» والاستمتاع بأضواء الشهرة والنجومية!! ü محمود كان يحمل مشروعاً لا يحتوي على «ديباجة» أو نصوص أو مذكرات تفسيرية!! مشروعاً غير مكتوب ولكنه يحاول أن «يسد فراغاً» ويغطي عورة السياسة التي أرهقت هذه الجموع الزاحفة و «الدافرة» أمامي الآن.. محمود ترك وراءه مهمة «عصية» في وظيفة الفن.. ولكل من يدعي امتلاك الجماهير ويتحدث بالنيابة عنها في الضفة الأخرى من النهر!! ü في هزيع الليل كنت أقطع الطريق الزراعي المؤدي لشمبات معي الظلام والحزن والصمت وأمامي حافلة كتب صاحبها على ظهرها «صحاري الحزن»!! üرحم الله محمود رحمة واسعة وجعل الجنة مثواه الأخير..