في ذلك الصباح وجدت شمطة في مكاتب الدفع المقدم للكهرباء.. وحاولت تبيّن الشخص الذي يردد في حسم: حتديني كهرباء غصباً عنك، بي قروشي ديل..! كان ذلك ود (الشواطين) الذي يريد أن يشتري (كهرباء) بمبلغ خمسين قرشاً (خمسمائة بالقديم)، ويصرّ الموظف بأنه لا توجد كهرباء بخمسين قرشاً. ذهبت إلى الشخص الهائج، فإذا به ود(الشواطين)، سلّمت عليه وسألته:إن شاء الله خير؟! أشار إلى موظف الكهرباء قائلاً:المواطن ده رفض يبيع لي كهربا..! نظرت إلى الموظف، فقال لي:ده زول عجيب، داير كهربا بي خمسين قرشاً، عليك الله دي بتجي؟! أخرجت ورقة من فئة العشرة جنيهات وقلت له:خلاص أديهو بي ديل، فأمسك بيدي وأزاحها وقال:أنا عندي قروش، لكن داير كهربا بي خمسين قرشاً بس، داير أرشّد استهلاك الكهرباء، ليه ما يديني؟! بعد صياح المنتظرين لدورهم في الشراء، سحبت ود(الشواطين) بعيداً وجلسنا قرب ست شاي وعزمته على كوب، وحاولت إثناءه عن موضوع شراء كهرباء بخمسين قرشاً لأنها (ما جاية) عديل. أثناء ذلك حضر شيخ كبير دسّ في يد ود(الشواطين) خمسة جنيهات.. وقال له:يا ولدي الناس بالناس.. ودي مساهمة مني تشتري الكهرباء.. فثار ود(الشواطين) في وجهه مصراً على أنه طلب كهرباء بهذا المبلغ للترشيد ليس إلا... طيّبت خاطر ود(الشواطين) وذهبنا سوياً وأنا أحاول التخفيف عنه، فمررنا بشارع فيه برك مياه هنا وهناك.. بينما أكوام من التراب تخص مالك منزل جديد يريد أن يحفر سايفون، وهذه أكوام التراب من جراء الحفر، فقلنا لود (الشواطين): هسع ده تراب سيدو ما عارف يوديهو وين، مش أحسن يردموا بيهو البرك دي؟! فقال: فكرة والله..! ذهب ود(الشواطين) وأحضر عُمالاً وطلب منهم حمل التراب لردم البرك، ووعدهم بأن يوميتهم سيدفعها لهم (سليم) سيد العمارة، وهي عمارة تطل على ذات الشارع. تركنا العمال منهمكين في الردم ومضينا، فقلت له:أنت يا ود(الشواطين)، (سليم) سيد العمارة ده ما بقولوا جلدة وبخيل، كيف فكّر في الموضوع ده؟! سألني في بلاهة: يا تو موضوع؟! قلت له: موضوع ردم الشارع؟! قال: ومنو القال ليك سليم ده حيدفع مليم، أنا ذاتي ما بعرفو، لكن ألم تقل للعمال ذلك؟ قال لي ببساطة: دي وهمة مني ساكت. سألته: وهمة كيف، كده ما عملت أزمة؟! قال ببساطة أكثر:لا أزمة ولا حاجة، في الأول حيمانع، تأني حيديهم. قلت له: وإذا لم يفعل؟! قال: خلاص يدوهم ناس الحلة. قلت له: وإن رفضوا؟! قال:أنا مالي، يأكلو نارم..! سكتّ عن الخوض في هذا الموضوع، لأنني أعرف أنه لا توجد طريقة لحل الأمر، فانتهزت الفرصة لتغيير الحديث وسألته:أنت وهمة الكهرباء بي خمسين قرش دي شنو؟! قال لي: مفروض تكون في كهرباء بأي مبلغ. قلت له: ولكن الأمر ليس عملياً. قال: المهم انو الناس ح تحكي بالحكاية دي وتناقش، وأكيد في نفر ولا نفرين ح يقيفوا معاي، وكده بخلي الناس تفكر في حقوقا واللاّ مش كده؟! قلت له:لاكين ياتو حقوق؟ قال: شوف يا حبيب، هسع دي أنا نبّهت الناس لي موضوع أنو من حقهم يشتروا كهربا بأي مبلغ، كويس معاك؟! دي الخطوة الأولى، الخطوة الجاية بقى انك بتشتري كهرباء مقدم، صاح؟! قلت: صاح. قال:يعني أنت دافع قروش الكهرباء، عشان كده ما مفروض الكهرباء تقطع، يعني ما معقول أنا ادفع ليك ثمن سلعة بعدين تقوم تقطعا مني، ده ما من حقك ولا مش كده؟! قلت له: لكن الكهرباء قاعدة تقطع رغم انو كل الناس مشترينها مقدماً. صاح ود(الشواطين):غلط، ودي المرحلة الجاية. مرّ يوم ويومين.. فوجدت الناس قد انقسموا حول ود(الشواطين)، واحدين بقولوا ده مجنون ساكت.. وواحدين بقولوا والله كلامو صاح وحقو نقيف معاهو..! قلت:إذن ود(الشواطين) عمل عملو، وأردت إشباع حب الاستطلاع فأخذت أسأل، وإذا ب ود(الشواطين) يظهر لي وهو يحمل أوراقاً فيها توقيعات مئات الناس، وطلب توقيعي فسألته: ده شنو ده؟! فقال: هذه شكوى ضد هيئة الكهرباء، وهذه توقيعات وإمضاءات وبصمات ناس الحلة الذين تضرروا من قطع الكهرباء، والتي يدفعون ثمنها مقدماً. قلت: ولكن الشكوى تحتاج إلى الكثير، إلى محامٍ على الأقل ليقف معكم. فأخرج ود(الشواطين) من جيبه ورقة فيها أسماء أكثر من عشرين محامياً، يعلنون تضامنهم مع ود(الشواطين) لرفع دعوى على الإدارة المركزية لأنها تقطع عنهم الكهرباء، رغم إنهم دفعوا ثمنها. قلت له: لكن يعملوا شنو؟! قال ود(الشواطين): حاجة ما بقدروا يسووها شغالين بيها ليه؟ حقوا يرجعوا لي نظام زمان ويلغوا الجمرة الخبيثة. فقلت له: هذا مستحيل. قال: إذن يعملوا حسابهم وما يقطعوا الكهرباء. قلت في سري: ربما ينجح ود(الشواطين) في مسعاه بنسبة واحد في المية، لكنه في النهاية أرضى نفسه ب (غلغلة) ناس الكهرباء، فاشفقت عليهم.. ولمّا وصلت البيت ووجدت الكهرباء قاطعة، صحت دون أن اشعر:ليك حق تغلغلن يا ود(الشواطين) زي ما بغلغلوا فينا بالقطع الكتير اليومين ديل..!