فور مطالعتي خبر البلاغ الجنائي الذي دونته الجمعية السودانية لحماية المستهلك ضد هيئة مياه الخرطوم، اتصلت بالصديق زميل الصبا د. نصر الدين شلقامي رئيس الجمعية فبادرته مهازراً قائلاً: ياود شلقامي ، من شدة الله ما أداك، تشتكي الحكومة؟! ضحك نصر من قلبه مستملحاً الطرفة، فقلت له ذكرتني بالعم الوقور عبد الرحمن جميل - عليه رحمة الله- فقد كان أحد أعيان كوستي،حقانياً، اشتهر بتردده على المحاكم لإحقاق الحق في كل شأن يخصه أو يخص المجتمع. ذلك المجتمع الذي صدر عنه كتاب وحيد، كما أعلم، بقلم نصر الدين نفسه. بعدها، دخل نصر الدين في الموضوع فقال لي: ما شجعنا على فتح البلاغ هو ما أعلنه والي الخرطوم ونشرته جميع الصحف أثر زيارته لهيئة مياه الخرطوم من أن تدهور المياه هو بسبب خلل فني وقصور إداري من جانب الهيئة، ونتائج الفحص الصادرة من المعمل القومي المرجعي «معمل استاك» التي أوضحت و وثّقت وجود مكروب خطير في مياه الشرب ما يجعلها غير صالحة للاستخدام البشري، وقد أصدرنا بياناً بالبلاغ ووجهناه إلى جميع الصحف، لأنها قضية تهم جميع سكان الولاية. البيان المهمور بتوقيع د. نصر الدين، قال إن نتائج تحاليل المرجع القومي «استاك» أثبتت أن هناك تلوثا بكتيريا خطيرا بمياه الحنفيات وأن المياه غير صالحة للشرب، بينما كشف أمين عام الجمعية د. ياسر ميرغني أن البلاغ فتح تحت المواد «82 و74» من القانون الجنائي، والمادة «30» من قانون حماية البيئة الخاصة بالتلوث البيئي، وأن الجمعية ستتابع إجراءات البلاغ لمحاسبة المقصرين وعدم تكرار ذلك مستقبلاً. انفردت جمعية حماية المستهلك - كما أرى- بمبادرة هي الأولى من نوعها في مجال الرقابة الشعبية على أعمال الحكومة وتفعيل حكم القانون، مبادرة تستحق الإشادة والتعضيد، وإذا ما مكنتها المحاكم وآليات تنفيذ القانون من متابعة دعوتها فإنها بذلك تكون قد فتحت نهجاً طال انسداده، بعد أن وقع في روع الناس أنه لا أحد يعرف مع الحكومة «حقاً أو باطلاً» في ظل سطوة الدوائر والمؤسسات الرسمية، وفي ظل حصانتها غير المفهومة في وجه أي متظلم مهما كان بين يديه من أدلة وشواهد تدعم مظلمته. هي خطوة على طريق أن يصبح القانون فوق الجميع حاكمين ومحكومين. جمعية حماية المستهلك تحمل قضيتها للمحاكم «إيماناً واحتساباً»، وهي في ذلك مدعومة بشهادة الملايين من سكان العاصمة الذين عانوا لشهور طويلة من التعامل مع المياه العكرة ظاهراً والملوثة باطناً كما كشف معمل استاك، وبإمكانها إحضار مليون شاهد من أهل الخرطوم وفي مقدمتهم واليها الذي كان أول من علّق الجرس على رقبة هيئة المياه، جرس سمع صوته الجميع بما فيهم وزارة الصحة الخرطومية. وجاء بلاغ الجمعية فلحق «السوط» ظهر الوزارة المعنية بمراقبة الأحوال الصحية لسكان الولاية بعد أن سمعت «صوت» جرس الوالي الذي علقه على رقبة الهيئة، فضربت الوزارة «الجِرْسة»، وحاولت جاهدة أن تتدارك شبهة الإهمال والتقصير التي قد تطالها إذا ما أدانت المحكمة هيئة المياه، وتلك قصة تذكرنا بحكاية رائدة الغناء السوداني الراحلة «عاشة الفلاتية» التي سئلت عن عدم إلمامها بالكتابة والقراءة، فأجابت سائلها بقولها «أنا وأخوي الكاشف ما بنعرف نقرأ» فصارت قولتها مثلاً إلى يوم الناس هذا. ففي الاجتماع الدوري لمجلس وزراء حكومة الخرطوم يوم الأربعاء الماضي، وبعد يوم واحد من نشر خبر بلاغ الجمعية، حذرت د. إقبال أحمد البشير في تقرير قدمته للاجتماع من «مغبة نشر» النتائج المعملية قبل التأكد من مصدر العينات الذي ربما يكون في موضع شك لأسباب موضوعية عديدة، وأشارت في الوقت ذاته إلى «أن المستشفيات لم تسجل إصابات بسبب المياه مما يعني سلامة مياه الشرب، وأن الوزارة تقوم يومياً بإجراء فحص معلمي لعدد «13» محطة مياه وأخذ عينات من الشبكات، ولم يثبت للوزارة عدم صلاحية المياه، كما أن الفحوصات الموجبة لا تعني أن المياه غير صالحة للشرب». لسنا مؤهلين، قطعاً، لمجادلة علمية مع الدكتورة إقبال، كما أننا لا نشكك بما أوردته من معلومات حول قيام وزارتها بإجراء فحوص في المحطات، ولكن بالعقل والمنطق فإن التلوث ليس بالضرورة أن يكون في المحطة أو في الموقع المعين الذي جرى فيه الفحص من الشبكة التي لا يمكن أن يقال أنه أجريت الفحوصات في كل أجزائها التي تمتد لمئات الكيلومترات، فالتلوث كما يقول أهل الاختصاص يمكن أن يكون «موضعياً» أي في مكان أو حي أو مجموعة أحياء أو في بئر بعينها تنطلق منه الجرائم- قاتلها الله- إلى كل أجزاء الشبكة أو في امتدادات واسعة منها. أما تشكيك الدكتورة «وتحذيرها» من «مغبة» نشر النتائج المعملية قبل التأكد من «مصدر العينات» ، فهو محاولة للإيحاء بأن للمعمل المرجعي القومي أو جمعية حماية المستهلك التي استندت إلى نتائج تحليله لديهما - المعمل أو الجمعية- غرض وراء ذلك النشر أو ما صحبه من بلاغ . وذلك إيحاء استهدف الدفاع المسبق عن موقف الوزارة حتى قبل أن تبدأ المحكمة النظر في القضية، إيحاء لا يخلو من محاولة مكشوفة للإرهاب الفكري، بماكينات الردع السلطوي، وذلك في حد ذاته مرفوض فمفردات «التحذير» و «مغبة النشر» لغة لا تناسب المقام ولا تخدم قضية الوزيرة. أما كون «المويه وسخانة وعكرانة» فذلك سيدتي الوزيرة لا يحتاج إلى فحوصات ومعامل أو حتى كوب زجاج بلوري لإدراك حقيقتة، فالناس - جميع الناس- يمكنهم ملاحظة ذلك فور فتح الحنفية أو الدش، ومع ذلك تحاول السيدة الوزيرة إقناعنا بأن الماء العكر والمتسخ يمكن أن يكون ماء صحياً وأن تطمئن الجميع للمضي في شربه واستخدامه للطهي والنظافة الشخصية، ناسية أو متناسية الحقيقة البسيطة التي يعرفها الأمي والعالم على حد سواء من أن الماء المخلوط بالطمي لابد أن يفرز الصدأ في المواسير وشبكة المياه لما فيه من شوائب معدنية، ولم يبق للوزيرة إلا أن تقنعنا بأن الصدأ- أيضاً- ليس مادة ملوثة ومأمونة الجانب. ما نعلمه بشأن جمعية حماية المستهلك، إنها جمعية طوعية يقودها أناس نذورا أنفسهم لخدمة مواطنيهم، ولا يتقاضون أجراً لقاء هذا العمل النبيل، وبينهم مثقفون وعلماء ومتخصصون في مجال الأغذية والبيئة بالعشرات، وهم على استعداد لمساعدة الجميع وتقديم خدماتهم الاستشارية بلا مقابل سواء لهيئة المياه أو وزارة الصحة ، دافعهم في ذلك حماية المواطن المستهلك لتلك الخدمات. فعلى الجميع مد العون للجمعية لمصلحة الجميع، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.