بدا ود مضوي مزهواً بنتائج زيارته لفريق العرب.. أنجز مهمته في خطوبة الشفة بت شيخ الأمين بأيسر مما تصور.. ود مضوي المتزوج من ثلاث سيدات لم يكن قد رأى الحسناء الموسومة بكأس العالم بعد.. الكشافون رفعوا تقريراً متكاملاً عن الجميلة.. حاجة نفيسة قدمت المقترح وفضل السواق قاد فريق التحري.. الدور الأكبر في إكمال الصفقة اضطلع به أحمد البابور رئيس اللجنة الشعبية في البلد.. كأس العالم رفضت اثنين من أبناء عمومتها وخضر التمرجي وباب الله سائق البص السياحي.. كان ود مضوي يستعرض كل هذه الأسماء وجهاً وجهاً ثم تزداد سعادته. خرج ود مضوي من دار أصهاره الجدد بعد أن وعدهم بتوصيل الردمية إلى مضاربهم قبل إكمال الزواج.. المقابر تفصل ما بين حلة الخديرة وحي العرب.. السابقون ظنوا أن الدنيا تنتهي عند المقابر.. جفاف الثمانينات صنع فريق العرب.. بداية لم تكن العلاقة سالكة بين الفريقين.. بعد مرور الوقت اكتشف أهل الخديرة أنهم يحتاجون الوافدين كعمالة في المزارع وسوق للمنتجات.. بنات البادية الجميلات جذبن أولاد الحلة وصنعن فيما بعد التوافق والتمازج ما بين هؤلا وهؤلاء . قرر ود مضوي أن يثبت لأصهاره الجدد أنه ما زال شاباً حينما رفض كل عروض إعادته إلى الخديرة.. قرر أن يعود وحده إلى أهله.. كان يدرك أن سلك طريق المقابر سيختصر مسافة طويلة.. المشكلة أن الناس تخاف من هذا الدرب المسكون بناس الآخرة.. تحسس ود مضوي عصاته ثم مسبحته وقرر خوض المغامرة. حينما وصل إلى عمق المقابر بدا متردداً.. الساعة كانت تشير إلى ما بعد منتصف الليل.. مقابر الموتى دفعت فيه شلال الذكريات.. كان ود مضوي يكره التاجر بابكر البدري.. مشكلته مع هذا الرجل أنه كان يتصدق على أسرة والده مضوي.. كانت تلك المساعدات تستفز الطفل بابكر مضوي.. حتى اسمه كان فيه إقرار بفضل الرجل على الأسرة.. لهذا كان ود مضوي يكره اسمه ويرتاح لكنية ود مضوي.. ارتاح قليلاً حينما رأى أن قبر الرجل الميسور يشابه قبور كافة الأموات. كل مشكلاته في الدنيا أن مشاعره متناقضة تجاه بابكر البدري.. يكرهه ولكنه يريد أن يصير غنياً مثله.. منذ أن ترك المدرسة الأولية حدد هدفه أن يصبح ثرياً مهما كان الثمن.. شغلته الدنيا والنسوان.. كثيراً ما دخل المسجد دون وضوء استجابة لضغط الرأي العام المتدين.. ليحقق هدفه كان يتاجر في كل شيء.. هرّب البضائع من مصر وتاجر في السلاح في الصحراء.. دخل سوق الحلة كمرابي يشتري من المزارعين قبل الحصاد . سالت دموع ود مضوي حينما توقف على قبر بخيت الصافي.. كان الرجل زميله في رحلة الاغتراب إلى السعودية.. في خميس مشيط السعودية دبر ود مضوي كل شيء للاحتيال على بدوي سعودي كان ينشد الإنجاب.. القصة التي مضت عليها سنوات طويلة عادت فصولها للواقع.. تمكن ود مضوي من النصب على الشيخ السعودي.. حينما وصلا إلى البلد.. احتال على رفيقه الذي مثل دور الشيخ ومنحه القليل من الأموال. ما زال ود مضوي يتحسس طريقه في ظلمة المقابر.. بدا وكأنه ضل الطريق وسط حصار الذكريات.. فجأة زلت قدمه إلى باطن الأرض.. كأنما أحدهم جذب الرجل إلى العالم الآخر.. بات ود مضوي يصرخ ويصرخ.. تمنى أن يسمعه أهله في الخديرة أو أصهاره في فريق العرب.. لم يستطع المقاومة فاستلقى على قفاه وراح في غفوة طويلة. بعد شروق الشمس جاء بعض السيارة يركبون دوابهم.. خافوا من المنظر ترددوا من الاقتراب.. صاح أحدهم «يا ناس دا ود مضوي».. أدركوه كان في حالة يرثى لها.. ملابسه مبللة بما يخرج من السبيلين.. عمامته في اتجاه ومسبحته وعصاته في اتجاه آخر. حينما وصل ود مضوي إلى الحلة بدأ «يهضرب».. روى لأهله أنه زار الأموات وتحدث إليهم فرداً فرداً وخضع لتحقيق عنوانه من أين لك هذا.. بدا ودمضوي في حالة ثورة.. في صلاة الظهر أعلن أن أسرة بخيت الصافي لها نصف ثروته.. قبيل المغرب وهب عربة البوكس الجديدة لفضل السواق.. قبل العشاء كان قد أوقف كل متاجره لمسجد القرية. بعد صلاة العشاء نادى كل فقراء الخديرة.. كان يوزع في جوف الليل كل ما احتوته المخازن والخزائن من ذرة وقمح ونقد.. احتج أبناؤه وزوجاته على تبذير الثروة واتهموا الأب بالجنون. في الصباح توجه أبناؤه برفقة عباس المحامي إلى قاضي المدينة ليحجزوا على أبيهم.. قبل أن يدخل الوفد على مولانا القاضي كان الهاتف يخبرهم أن الأب الصالح قد توفاه الله في هذه اللحظة.