- خبر الوفاة يتسرب إلى بعض أفراد الحلة قبل أن يعرف كل أهل الميت.. تبدأ التجهيزات بروح هميمة.. هذه الحالة فقط تتحد فيها الحلة.. وتمضي قدماً إلى ستر (ميت.. واكفاء أهله مؤونات الكفن والحنوط والبرش.. وحفر القبر وإقامة الصيوان الماهل). - لحاج المبارك ثلاثة من الأبناء الرجال (ما شاء الله) لكنهم يختلفون أيما اختلاف في مشاربهم الفكرية.. الأكبر صالح محافظ إلى حد ما.. الأوسط إسلامي متشدد حتى في أمور مثل طول الجلباب وضرورة إطلاق اللحية.. الأصغر (صابر) أميل إلى اليسار.. وللدقة (وسط اليسار). - عشية مات والدهم حاج المبارك.. وقبل الصلاة على الجنازة ودفنه.. وفي وسط المقابر بلغ بهم الجدل مبلغه.. يرى صالح أن يماشوا العرف السائد.. بينما يصر صلاح على أن ينتهي العزاء بانتهاء الدفن.. أما صابر فلا يهمه الموضوع ويبدو غير مبالٍ ولو أنه في صف صالح.. فقط يجب اختصار أيام المأتم.. بدأ الجدال هامساً ثم تصاعد فتدخل (الخال) مطالباً باخفاض الصوت حتى لا يلفت نظر الناس.. فلما عرف أمر الجدل سرعان ما انحاز إلى رأي صالح حتى لا يثير التساؤلات.. ولأن ذلك الصحيح ولا يصح إلا الصحيح. - أصر صلاح على أن تلك بدعة منكرة.. وعلا صوته كأنه يخطب: كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.. اقترب الفضوليون وغيرهم وأخذوا يدلون بآرائهم.. قال (حاتم)المثقفاتي (بتاع الحلة): الفراش ظاهرة اجتماعية مش بطالة.. صحيح فيها إسراف وبذخ لكن (حقو نوقف الإسراف والبذخ مش الفراش).. فسأل صلاح في سخرية: بالله عليكم إن هذه ظاهرة ما بطالة فالبطال شنو؟.. فقال (حاتم) المثقفاتي: صدقني ظاهرة كويسة.. قال صلاح باستهزاء: ما الكويس في بيت البكاء والفراش ليومين أو ثلاثة.. الله كيف؟ رد صلاح وأضاف: بعد تفتت الأسرة الممتددة وظهور الأسرة النواة.. أصبح بيت البكاء ضرورة.. يجبر الناس على التلاقي والتعاون وأهو فرصة لمواصلة الأرحام مع الموبايل الخلا الشوف نادراً!.. انبرى منصور أفندي للحديث بعد أن عرف سر الجدال: الحقيقة فكرة صلاح وجيهة لكن لسة وقتها ما جاء.. حاج الشريف تطوع بفتواه: إن المرحوم كان مواصلاً وما بقصر في كره ولا فرح.. مش حرام ما يتعمل ليه فراش؟!.. ويحتد النقاش ولكن ثمة رجل حكيم ينادي إلى الصلاة على الميت.. فاصطف الناس مؤجلين النقاش الذي لابد من حسمه بعد الدفن مباشرة.. لأن ذلك سيحدد وجهة الناس إلى بيت الفراش أم إلى منازلهم.. وهل سيصبحون على أهل الميت أم يذهبون إلى أعمالهم عادي.. ستروا الميت شالوا الفاتحة.. تردد صلاح في رفع يده فهذه أيضاً بدعة.. تحرك الناس حيارى في مجموعات هنا وهناك.. مجموعة ضجرة من الموقف برمته لكنها تقف في (الحياد الحردان).. ومجموعة متحمسة للفراش واعتبرتها مسألة حياة أو موت واختارت أن تشد من أزر صالح بحماس كبير.. صلاح ليس ثمة من يؤازره بحرارة إلا أن بضع أفراد ساروا بجانبه حتى يثنوه عن فكرة انتهاء العزاء بانتهاء الدفن. - أحضر شباب الحي لوازم الصيوان وكادوا ينصبونه لولا وصلهم خبر (صلاح) وإصراره.. وصالح والمحك الحقيقي الذي سيختبر قوة شخصيته.. تسرب الخبر للنسوة وأصررن على ضرورة الفراش حتى لو للنساء فقط.. بعض نسوة الحلة آثرن عدم التدخل في شؤون الأسرة (والشورة يا ها شورة الرجال).. بينما أخذن يحكين عن المتفلسفين الذين لم يقيموا مأتماً ولم (يفرشوا) على موتاهم وكيف حلت بهم اللعنات فيما بعد.. أخيراً أعطى (الشريفي) أمراً للشباب بنصب الصيوان فأخذوا ينصبونه في همة.. ولما عرفت بذلك أرملة حاج المبارك الطازجة كادت تزغرد فرحة بأن الأسرة لم تخالف التقاليد لكنها انتبهت إلى موقفها وأخذت تبكي وتنوح في حماس دؤوب.. بدا صلاح حزيناً ومهموماً لوفاة والده.. ولأن البدعة هزمته فوافق على هذه العادة الوثنية.. انزوى في بيت الفراش يعض بأنامله على حبات المسبحة فتكاد تنفرط.. فلم يجد سوى المسبحة يتعزى بها.. هو الذي أقلع عن عادة التسبيح بالمسبحة لأنها أقرب إلى البدعة وهو يستخدم أصابعه في التسبيح حتى تضيء يوم القيامة. - صالح بزهو المنتصر يرفع الفاتحة في نشاط.. حديث المأتم وونسة بيت البكاء كانت تنطلق وتحط.. تنبثق وتتفرع في حزبي صالح العريض.. وحزب صلاح المحدود وتظل تراوح مكانها.. ويتشعّب الحديث فيلج دنياوات السياسة.. فيذكر الرهط حاج المبارك ومساهماته السياسية عبر حنجرته.. تارة بالنقد القاسي للحكومة وتارة بالقبول المشروط لأعمالها الحسنة.. وغالباً ما يختم حديثه بعبارة ساخرة.. فحين يمدح اهتمام الحكومة بإنشاء الطرق يختم بقوله: والله الحكومة دي شوارعية خلاص.. فيترحمون عليه بما يشير بأنه لولا الفراش لما حكيت هذه المآثر.. ينحرف الحديث إلى الرياضة.. وسرعان ما تذكر مواقف الفقيد الرياضية وكيف أنه كان يتفانى في عشق الهلال.. وأنه كثيراً ما تباكى على عهد جكسا وقاقرين والدحيش والنقر إلى أن يصل إلى (والي الدين) فيترحم عليه بالدمع الثخين.. وهكذا ما أن تجيء سيرة المرحوم إلا تعدد مآثره وتذكر حسناته ومن ثم حسنات بيت البكاء وأهمية الفراش.. ويردد منصور أفندي: شوف هسع على ذكر المرحوم اترحمنا عليه كم مرة؟.. دي ذاتا ما بتزيد حسناتو.. الفراش مهم يا اخوانا. - في ضحى الغد جذب (حاج مضوي) (هاشم ود الأمين) قائلاً بصوت جهوري: تعال يا ولد.. إنت مش أبوك الأمين؟ آي.. مُش أمك محاسن بت حاجة ست البنات؟.. آي.. سمح أنا ببقى ليك شنو؟.. هنا ينتهز (الشريفي) الفرصة ويرفع صوته متعمداً أن يسمعه صلاح: أهي دي ميزة الفراش.. الأولاد الصغار بعرفوا أهلُن الكبار.. وبعدين يحصل تواصل.. ويتصل الحوار عن مزايا وفوائد بيت البكاء.. وأنه ليس قعدة وتِكِسر ساكت.. إنما نظام اجتماعي له وظائفه. - دكتور حسن أستاذ الفلسفة في الجامعة أدلى بدلوه في النقاش وهو المعروف بحرصه على أن لا يتكلم إلا نادراً.. فقد أفتى بأن لكل ظاهرة وظيفة تؤديها ولا تنتهي هذه الوظيفة ببساطة خاصة لو كانت اجتماعية.. إلا بعد أن يخضع كل المجتمع لحالة من التغيير الذي يتم عبر مساحة زمنية واسعة. تلوح فرصة للمقارنة بين عادات مجتمعنا في (البكا) وعادات الخواجات.. فمجتمعهم معزول.. الناس فيه بمثابة جُزر لذلك يستغرق الحزن الناس فلا يجدون من يواسيهم أو يخفف عنهم.. فيتفاقم الحزن ويكون الفقد جللاً.. فيتجهون صوب العيادات النفسية. - في وقت وجبة الغداء حضر بعض الطفيليين والمساكين.. أكلوا.. شبعوا.. شربوا الماء البارد والشاي (فتكرعوا) وحمدو الله.. هنا ينتهز الشريفي الفرصة فيعدد مزايا الفراش وفوائد (بيت البكا).. فأين كان سيجد هؤلاء مثل هذه الرحمة لو اندثرت ظاهرة الفراش. - يتصدى (محسن اليساري) فيقول له: الاقتصاد مهم وفي حالة الفقر المدقع ينتهز البني آدم أية فرصة عشان يعيش ويتشبث بالبقاء وبيوت البكاء (في الحتة دي) بتحل مشكلة اقتصادية.. وبالتحديد... يقاطعه الشريفي قائلاً: انحنه كلام الشيوعيين ده ما بنعرفو.. بيت البكا مهم.. والفراش ضروري ده البنعرفوا. - استمر الفراش.. في مغرب اليوم الثاني كان ينبغي رفع الفراش لكن ثمة من همس لصالح.. ناس سنار.. وناس مدني بجوا في أي لحظة لو الفراش اترفع تبقى مشكلة.. يستمر الفراش لحين حضورهم في اليوم الثالث.. حضر ناس سنار ومدني وانفتح البكاء من جديد واستمر لليوم الرابع ويعود نحر الذبائح.. اليوم الخامس قرروا رفع الفراش لكن (ود عم المرحوم) حضر من كندا خصيصاً للعزاء.. وابن خالة المرحوم أخذ إجازة وجاء من السعودية.. وإكراماً لهؤلاء استمر الفراش يوم يومين تاني. كاد صلاح يموت من الغيظ وهو يحادث نفسه بصوت مسموع: حالتي قلت ينتهي العزاء بانتهاء الدفن!