لعل إفادات السيد (لوال دينق) وزير النفط حول الوحدة والانفصال، والنفط، وعلاقات الشمال والجنوب، ومشاركة الحركة الشعبية في السلطة، والتي أدلى بها في الحوار الذي أجرته معه صحيفة (الشرق الأوسط)، هي الأهم والأكثر مصداقية وصدقية علي الإطلاق، من شخصية تنتمي للحركة الشعبية منذ رحيل جون قرنق . فقد تحدث الوزير بصراحة وأجاب على الأسئلة بشفافية نادرة، غير معهودة، ولا مألوفة، ولا مأثورة عن قيادات الحركة الشعبية، لذلك لا استبعد أن تصوب إلى الرجل سهام كثيرة من قبل بعض القيادات الانفصالية بالحركة علي خلفية هذا الحوار، فقد أصابهم في مقتل، ونسف بتصريحاته كل الحجج التي ظلت تسوقها هذه القيادات كمبررات للتوجه الانفصالي لديها، حين قال إن (دولة مستقلة في الجنوب ستكون عامل عدم استقرار لنفسها ولشمال السودان وللدول المجاورة ). أنظر كيف طرح الرجل الحقيقة مجردة وببساطة شديدة لا تخلو من تحليل ثاقب، فالدولة الجنوبية الجديدة إذا ما أضحت واقعاً ستكون عاملاً لعدم الاستقرار لها أولاً، وهذه حقيقة واضحة وضوح الشمس، ولا أحد يدرك هذه الحقيقة حق الإدراك مثلما يدركها قادة الحركة الشعبية، الوحدويون منهم والانفصاليون علي السواء، فهناك العديد من عوامل وأسباب وبذور و(تقاوي) عدم الاستقرار في الجنوب، ما ظهر منها حتى الآن أقل بكثير مما بطن، ولا يحول بينها وبين الانفجار إلا نزع صمام الأمان منها، وصمام الأمان هو كون الجنوب ما يزال إقليماً ضمن الدولة السودانية الواحدة المعروفة بحدودها ومكوناتها الحالية. وعدم استقرار (الدولة الجنوبية ) لن يظل حبيس حدودها، وإنما ستتعدى آثاره وتداعياته السيئة الحدود لتطال الشمال، بحكم الارتباط العضوي الوثيق، فاقتطاع عضو من جسد واحد سيخلف حتماً جراحاً غائرة لن تندمل بسهولة أبداً، وستكون هذه الدولة مصدراً للمشاكل والأزمات و(البلاوي المتلتلة) للدول الأخرى المجاورة لها، بفعل نظرية قطع (الدومينو). غير أن أكثر ما شد انتباهي في حديث السيد لوال، واستحق وقفة تأمل عميقة هو قوله (أنا كنت وزيراً في حكومة الجنوب ثم انتقلت إلى وزير دولة في حكومة السودان الاتحادية، والآن أنا وزير نفط في الحكومة الاتحادية.. لا يتمتع كثير من المثقفين والمهنيين الشماليين بهذه الفرص، إنه الآن وفعلاً يحكم الجنوبيون أنفسهم، ويشتركون في حكم الشمال.. نحن ثلث الوزارة الاتحادية في الخرطوم.. ماذا نريد أكثر من ذلك). نعم ماذا يريد الانفصاليون أكثر من ذلك.. لعمرك إن الرجل قال هذا، وهو في قمة الصدق مع نفسه، ولا يصدر مثل هذا القول إلا من رجل حكيم ومحترم. فالوضع الذي منحته اتفاقية السلام الشامل للجنوب وضع لا يوجد له نظير في كل النماذج المماثلة للنموذج السوداني، أن يُعطى إقليم معين حق حكم نفسه بنفسه، والمشاركة في السلطة المركزية بمقدار الثلث، في بلد بحجم السودان في مساحته، وتعدد مكوناته السكانية والجهوية، بينما هناك جيش جرار من الكوادر والخريجين في الشمال يمتلكون الكفاءة العلمية والعملية والتأهيل، يحلمون بهذه الفرص في اليقظة والمنام، ولا يجدونها بسبب شغلها بكوادر جنوبية، بعضهم مؤهل، وكثير منهم غير مؤهلين، وتنقصهم مواصفات شغل الوظائف. ألا يكفي هذا كله لأن تكون الوحدة جاذبة؟ . شهادة السيد لوال وإن جاءت متأخرة، إلا إنها ألقت حجراً كبيراً في بركة الانفصاليين، نرجو ونتمنى أن يوقف هذا الحجر (نقيقهم) المزعج، الذي مللناه وآذى أسماعنا، بمقطوعاته السيئة ليل نهار.. لست متشائماً، ولكن أخشى بشدة أن تكون شهادة الرجل بمثابة صرخة في وادي الصُم، وشهقة ما قبل الطوفان، التي لا تفيد وتكون مجرد كلمة يحفظها التاريخ له في سجله، لتذكرها الأجيال القادمة جيلاً بعد جيل بعد وقوع المحذور، وتقول حيث لا ينفع القو : ليتنا سمعنا ما قاله لوال.