عشرة أعوام مرت من عمر الأزمة في إقليم دار فور، الذي قامت فيه ممالك وسلطنات شكلت مع أخريات الدولة السودانية بحدودها القديمة والجديدة، وأسهمت قبائلها برفد الثقافة السودانية من خلال الموروثات والعادات الخاصة بقبائل الإقليم، ورغم هذا الميراث والرصيد الضخم من مكنون التصالح والتسامح، صارت الأزمة في دارفور تأكل من هذا الرصيد بعد التدخل الدولي عبر مساراته الإنسانية والعسكرية، بالإضافة إلى التدخل الإعلامي وهجرة الفضاء التلفزيوني والميديا العالمية إلى الإقليم، فشكلت فيه مفاهيم جديدة، وتحالفت الميديا مع تجار الحرب كل يخدم الآخر لاستدامة الحرب وتحقيق أهداف استراتيجية وتكتيكية لإرهاق الدولة السودانية ونظامها الحاكم. وفي أعوام الأزمة هذه تغيرت مفاهيم في العقل السياسي الدارفوري وكذلك عامة أهل دارفور، وبرز جيل الأزمة مستعيناً ومسلحاً بأفكارٍ وأحلام تقفز عالياً لتحقيق مكاسب سياسية، لا تخدم قضيته بل تعمق جراح الإقليم وتدخله في دوائر الاستقطاب، الذي تحركه الولاءات القبلية، التي تعينه في البحث عن فعل سياسي، لتشكيل مواقف سياسية غير مألوفة في الإقليم. وحينما نشب النزاع في دارفور بالهجوم على الفاشر في 25ابريل 2003 م، وبموجب ذلك توالدت الحركات المسلحة وأحالت الإقليم إلى ديار حرب استخدمت فيها الآلة العسكرية مرسلة إشارات تنبه العالم إلى ما يجري في دارفور من صراع، وصفته الآلة الإعلامية الغربية بأنه أسوأ كارثة إنسانية، وفتحت الأبواب والمطارات والمعابر والمنابر للمنظمات، فحملت الغوث المسموم عبر طائراتها، وقليل من الملائكة، وكثير من الجواسيس، الذين أسسوا قاعدة بيانات لكل المنطقة، وأرسلوا واردهم بدلوه، فانغمس في أغوار وتفاصيل الطبوغرافية الدارفورية، وحدد مكامن الانفجار المجتمعي، فأصبح يحرك الأحداث وفقاً لمعطيات الغوث المسموم كغطاء ناصع لعقلية الأشرار والخبثاء القادمين من وراء المحيط، والباحثين عن تمزيق دول العالم الثالث وعودة الاستعمار مرة أخرى وأهلنا في قبيلة الفور تحديداً يقرأون الواقع من تفاصيل الطبيعة، ويتعاملون معها ويفسرون بها الوقائع، ومثال لذلك فهم يرون أن الأزمات تجدد عليهم كل عشرة أعوام، ويستشهدون بأحداث 1980م التي انتفضت فيه دارفور عقب تعيين المرضي حاكماً للإقليم، وما شهدته المنطقة بعد ذلك من بروز الصراعات القبلية، وبيانات التجمع العربي وتنظيمات قريش ثم استعانة الحركة الشعبية بأبناء المنطقة أو ما يعرف بحركة بولاد 1992 _ 1993 ثم تمرد 2003م، كل هذه الأحداث لديها مقدمات متشابهة ومكررة تبدأ «الحرب أولها كلام» بين القبائل، ثم يتدخل الأجاويد لنزع فتيل الأزمة ببراعة وحكنه تفوق المحكم الدولي، ولكن بعد التغيير في المفاهيم ودخول المطامع السياسية والرقيب الدولي، أصبحت كل المشاكل في الإقليم ذات ظلال سياسية معقدة، أسهمت فيها المنظمات الأجنبية ومحور العداء الدولي للسودان، فأصبحت الأزمة تتبرعم وتتكاثر وتنتشر مثل السرطان، وتتجدد التحديات بتجدد دوافع صعود وهبوط مسببات النزاع والصراع، ومن المدهش أن الفور الذين يقطنون مناطق جبل مرة ووادي صالح الكبرى، لديهم اعتقاد جازم بأن كل المشكلات التي شهدتها دارفور تنتهي في منطقة وادي صالح، مثل ثورة علي دينار ونهاية بولاد، هروب عبد الواحد من منطقة «بلدة» بالقرب من جبال سندو وصراعات قبلية كثيرة انتهت في وادي صالح .ومع انتهاء العشرية الأولى من الأزمة، وكما هو معروف التدخل الدولي السافر، ودوره في إطالتها وتجدد سيناريوهات النزاع بخلفيات متعددة، واليوم تشهد دارفور نزاعاً جديداً وبرؤية مختلفة عن 2003م، حيث خرجت الحركات وتمردت على الدولة، وخاضت معارك من أجل السلطة والثروة، واصطحبت معها القبائل في المواجهة مع الدولة، وكان ما جرى في الإقليم من مشهد حربٍ لا تذر شيئاً إلا جعلته دماراً، والآن القبائل تتقاتل من أجل الأرض والذهب وأشياء، وتعجز الأجاويد المدربة على حل النزاعات منذ زمن طويل، والعجز مرده الى تغيير المفاهيم التي جرت مراسمها في العشرية المنصرمة من الأزمة التي أنتجت سماسرة الحرب الذين يقتاتون من النزاعات واستدامة التوتر في تحقيق أهدافهم والذين من خلفهم. وهناك أحداث شهدتها دارفور في الأيام الماضية، مثل أحداث كتم، وجبل عامر، وعد الفرسان، وغيرها، أعادت للإقليم التوتر بعد انحسار نشاط الحركات المسلحة منذ زمن طويل، وأسهمت تلك الأحداث في خلق وضع غير مستقر، وضعها في دوائر تحليل الحالة الدارفورية وتتبع بوصلة الأحداث واتجاهاتها ومصائرها. حافر وصهيل قامت الميديا العالمية ومنظمات الغوث الإنساني بأدوار في ظاهرها الغذاء والرحمة وفي باطنها سيناريوهات العذاب الطويل بصناعة الأزمات، خاصة المنظمات التي تحمل في أحشائها الإعلام والمخابرات فانغمسوا في دارفور وخبِرتهم وخبِروها، وجمعوا كل الأشياء وأدخلوها معامل إنتاج الأزمات وأصبحوا يحركون القبائل والأفراد في إثارة النزاعات، ومع هذا السرطان المنتشر لا تجد في صيدلياتنا إلا البندول، ويتورم الحال كل حين من الدهر، وينقل الإعلام السوداني الأحداث كما هي ولا يستطيع أن يغير من الحدث شيئاً، وتدور مطابعنا عاكسة واقعاً مخيفاً، ربما يتطابق مع نبوة الفور في تجدد عذابات أرصفة الحرب كل عشرة أعوام، لذلك لا بد للإعلام السوداني أن يلعب دوراً مهماً في تفريغ شحنات الغضب من الباحثين عن الذهب والأرض، في أزمنة تغيير مفاهيم السماحة والتصالح بين مكونات المجتمع الدارفوري. وعلى الدولة مراجعة الأزمة خلال العشرية المنصرمة بمنهج التحليل والتقويم، لسد ثغرات المستقبل الذي بدأت عشريته الجديدة بقتال القبائل من أجل الذهب والحماقات، وشل الدولة وإدخالها في دوامة إطفاء الحرائق، وتكرار المناظر والقدلة وإحراق الأرض من جديد.