يكفي فقط أنْ تبحث كلمة (دارفور) في نسختها الإنجليزية في واحدةٍ من محرِّكات البحث الإلكتروني لتكتشف من خلال نتائج البحث التي تفوقُ ال(3) ملايين نتيجة، حجم التساؤل الإعلامي العالمي لقضية دارفور. فلم تحظ حتى قضية حروب جنوب السودان، وعلى تطاول أمدها، وعلى تكاثر ضحاياها من القتلى والجرحى والمفقودين، لم تحظ بهذا الاهتمام المتكاثر. فبعد فترةٍ قصيرةٍ من تفجُّرها في العام 2003م، دخلت قضية دارفور مباشرةً تقارير المنظمات الدولية وأحاديث قادة الدول، بل حتى السينما الهوليوودية. بعضهم يرد هذا الأمر إلى تحريك أطراف من قيادات حركات دارفور قضية دارفور في المنظمات الدولية، وإصباغه بألوان (الانتهاكات الإنسانية)، وهي كلمة السر الناجحة في جذب الأسماع للقضايا في غرب العالم. وبعضهم ردّ هذا الأمر إلى أنّ (الزمن) الذي انقدحتْ فيه شرارة قضية دارفور كانت الميديا العالمية في أعتى انقداحها وسطوتها، وبالتالي فقد أسهمت هذه الميديا ب(غرضٍ) وبغيره في الترويج لقضية دارفور. عنزان لا ينتطحان لكن إنْ صحّتْ هاتان الروايتان وغيرهما، أم لمْ تصحّا؛ فالحقيقة الواحدة التي لا يُفكّر عنزان على التناطح لأجلها، أنّ قضية دارفور صارت قضية عالمية، وبالطبع اختلف حولها الناظرون كلٌ بمؤيداته وتبريراته، منهم من وقف ب(مبدئيةٍ) ووصف ما حدث ب(الإبادة الجماعية)، ومنهم من عارض هذا النظر ناظراً إليه بأنّه لا يرقى إلى هذا الوصف المجافي. وبرزت في المنتصف من غير السودانيين أصواتٌ فيها من النظر العقلاني والموضوعي والأكاديمي لقضية دارفور، من هذه الأصوات د. محمود ممداني، في كتابه: (دارفور.. منقذون وناجون، السياسة والحرب على الإرهاب)، الصادر أخيراً عن مركز دراسات الوحدة العربية. ؛؛؛ الكاتب عمد إلى تحليل مفردات مثل: "التراث، القبلية، العِرق والموقع الجغرافي" وتأثيرات كلّ هذه المفردات في أجواء الصراع الدارفوري ؛؛؛ ومحمود ممداني أستاذ للعلوم السياسية، وعلم الإنثروبولوجيا بجامعتي كولومبيا ودار السلام بتنزانيا، وهو يوغنديٌ من أصول هندية. ينطلقُ د. محمود ممداني في كتابه (دارفور.. منقذون وناجون)، وهو ينظر إلى مشكلة دارفور في تتبعها بمنهج أكاديمي في مستوياتها (الاجتماعية)، (السياسية) ومن قبلهما (التاريخية). ثم يعمد بهد ذلك إلى تحليل مفردات مثل: التراث، القبلية، العِرق والموقع الجغرافي وتأثيرات كل هذه المفردات في أجواء الصراع في دارفور. مع إشارات كاشفةٍ عن أدوار الاستعمار في التأسيس لهذا الصراع وتعميقه، بل وإيجاد أسباب له كانت مقنعةً وقتها، وكافية لنشوب الصراع واستمراريته. تقارير أممية ثم يشير ممداني إلى تصوير الصراع في دارفور في الميديا العالمية على اعتبار أنّه صراع بين العرب والأفارقة، أو بين العرب والزُرقة، هذا مع استبعاد عامل الأرض الذي يعتبره د. محمود ممداني من أسباب الصراع الرئيسية. بالإضافة إلى ذلك ترويج هذه الميديا إلى أنّ الصراع في دارفور ماهو إلا (إبادة جماعية) بامتياز يرتكبها العرب ضد الضحايا الأفارقة. كثيراً ما تقارن، وبشكلٍ مباشر، الكثير من الدوائر العالمية، خاصة (حركة إنقاذ دارفور) ما يحدث في دارفور من قتلٍ مباشرٍ بما حدث بين الهوتو والتوتسي في رواندا (1990- 1993م). ؛؛؛ تقريرا الأممالمتحدة عام 2005م، والمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية عام 2008م، كفيلان بتغيير النظرة التي تقول بالإبادة الجماعية بدارفور ؛؛؛ لكن محمود ممداني يتساءل في كتابه (دارفور.. منقذون وناجون): كيف نعرف بأنّ ما حدث في رواندا من (إبادة جماعية) هو ذاته الحادث الآن في دارفور؟ هل فقط لأنّ الآخرين قالوا بذلك؟ ثم يشير ممداني إلى أنّ تقريرين دوليين صدرا بخصوص دارفور ما بعد أعمال العنف في العام 2003م كفيلان بتغيير النظرة التي تقول إنّ ما يحدث في دارفور هو الإبادة الجماعية عينها. التقرير الأول صادرٌ عن لجنة الأممالمتحدة الخاصة بدارفور في العام 2005م، والثاني صادر عن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في العام 2008م. ماهية الإبادة الجماعية التقريران لم يلحظا مسألة الأرض التي أذكتْ الحرب الأهلية طوال عقدين في دارفور، وبالمقابل ركّزا على مساهمة الطرفين المتحاربين (الحكومة السودانية والحركات المسلحة) على توسيع دائرة الصراع. لكن ممداني يرى أنّ هذا أيضاً كان مختزلاً فقط في التركيز على دور الحكومة السودانية، مع إغفال تام لدور الحركات المسلحة. الأممالمتحدة -من جانبها- خلُصت في تقريرها إلى أنّ (الحكومة السودانية لم تنتهج سياسة الإبادة الجماعية)، وذلك لأنّ عنصر الإبادة الجماعية غير موجودٍ. واستنتج التقرير غياب نية الإبادة الجماعية في عنفها في دارفور، معللةً بأنّ الهجمات على القرى كانت (النية) من خلفها إخراج الضحايا من بيوتهم لأغراض مكافحة التمرد بالدرجة الأولى. وعليه عندما اتهم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية الرئيس السوداني، عمر البشير، بالإبادة الجماعية فقد ركّز على نتائج العنف لا على مضمونه. ؛؛؛ أصل الصراع في دافور كان على هيئة حرب أهلية (محلية) بين عامي (1987-1989م)، لكنه تحوّل إلى تمرّدٍ في العام 2003م ؛؛؛ يعتقد د. محمود ممداني أنّ أصل الصراع في دافور كان على هيئة حرب أهلية (محليةٍ) بين عامي (1987-1989م)، لكنه تحوّل إلى تمرّدٍ في العام 2003م، إلا أنّه لم ينظر إليه كإبادةٍ جماعية إلا أحد طرفي الحرب الأهلية، وهي القبائل التي تمتلك الأرض، وتسعى بالمقابل إلى صد القبائل التي لا أرض لها؛ بل تفتقرُ إلى الأرض، وتهربُ من امتداد الجفاف والصحراء. منقذون ب(غرض) ويضيف ممداني أنّه ومنذ مؤتمر المصالحة في العام 1989م بدارفور، كان ذلك الطرف يستخدم لغة الإبادة الجماعية بل (الهولوكوستْ) في أحايين أخرى، لكن التهمة لم توجه إلى الحكومة السودانية، بل إلى ائتلاف القبائل الذي يقاتل الطرف الآخر. ثم يشير إلى بعض القوى التي كان لها أثر تصعيده واستمراره بشكلٍ مباشرٍ و(بغيره) منها الأسلحة الفتاكة التي جاءت عبر التنازع في الحرب الباردة على تشاد من قبل معمر القذافي. هذا بالإضافة إلى تدخل الحكومة السودانية لمكافحة التمرد ب(وحشية)، بعدها مباشرةً شرع (مديرو الحرب على الإرهاب) في العمل على الإيقاع (ببساطة) بالحكومة السودانية وحماية المتمردين باسم العدالة. الكتاب كما أراد له كاتبه يُلقي بالحُجةِ على مَنْ يستبدلون اليقين الأخلاقي محل المعرفة، ومن يشعرون أنهم صالحون حتى عندما يتصرفون على أساس الجهل التام، وهؤلاء يقصد بهم د. محمود ممداني-مؤلف الكتاب- الذين أطلقوا الإنذار بشأن دارفور في العام 2004م، بقولهم "إنّ العنف في دارفور ذو دافع عرقي يرتكبه (العرب السُمر) ضد (الأفارقة السود). ويصل الكتاب في واحدة من استنتاجاته واستخلاصاته الكثيرة إلى أنّ هذه (الصياغة) للعنف هي امتدادٌ للخطأ الذي أفرزه الإرث الاستعماري الذي أضفى (العرقية) على شعوب السودان. فيما أضاف أنّ ما نجم عن تسمية العنف الحادث في دارفور ب(الإبادة الجماعية) جملة عواقب منها أنّ ذلك أضفى حصانة على المحاربين من الحركات المسلحة باعتبارهم يقاومون الإبادة الجماعية في حربهم ضد الحكومة السودانية. شرعية الانتقام كما أدى وصف العنف الدائر في دارفور باعتباره (إبادة جماعية) وقتل على أساس عرقي إلى إضفاء المزيد من (العرقية) على الصراع في دارفور بشكلٍ عام. كما منح بالمقابل الشرعية للذين يسعون إلى الانتقام بدلاً عن المصالحة. ثم عرض ممداني إلى مواقف بعض الذين أسهموا في شن حملات إعلامية وسياسية ضد الحكومة السودانية، مبيناً (الغرض) من بعضها. ومن هذه المواقف موقف بروفيسور جون هاغان من جامعة نورث وسترن، وهو أحد المؤلفين الرئيسيين لدراسة الائتلاف من أجل العدالة الدولية، ود. إريك ريفز، ونيكولاس كريستوف أستاذ الأدب في كلية سميث الأميركية. ؛؛؛ الصحافة الأميركية لم تتحرّ صحة إطلاق تسمية (الإبادة الجماعية) على العنف في دارفور، ولم تعمل على توفير حيِّز للنقاش بشأنها ؛؛؛ وأيضاً هناك الكاتب الصحفي بصحيفة نيويورك تايمز، الذي كتب أكثر من ثلاثين عموداً ومقالةً، وحصل في نهاية المطاف على جائزة "بوليترز" بسبب تغطيته الدائمة والدؤوبة للأحداث في دارفور. حيث قام كريستوف ب(6) رحلات إلى دارفور حظيتْ بتغطيةٍ إعلامية عالية، أولاها كان في مارس من العام 2004م، وآخرها بعد عامين من ذلك التاريخ. ولاحظ ممداني في إحصائيات الوفيات التي أوردها كريستوف في مقالاته تلك الانخفاض والارتفاع المثير للدهشة. فقد بدأ في كتاباته بتقدير (320) ألفاً في يونيو في العام (2004م)، ثم تراجع التقرير إلى ما بين (70) إلى (220) أًلفاً في فبراير من العام (2005م)، ثم ارتفع إلى (400) ألف في مايو (2005م)، وهبط إلى (300) ألف في أبريل من العام 2006م. جلسة استماع وتساءل ممداني: إذا كان ارتفاع الأعداد يعكسُ ارتفاع مستوى الوفيات، فما الذي يمكن أنْ يفسِّر تراجع الأعداد؟ بل إن تقديم الأرقام كل مرةٍ بمصداقية متساوية دون أية محاولة لشرح السبب هو مدعاةٌ للاستغراب. ويسخر ممداني: هل كان كريستوف، مثل ريفز، يعاني من صعوبةٍ في تعلم الأرقام، أو أنه كان يُجري هذه التعديلات لتغيير المزاج الدولي؟ ويُجيب ممداني عن نفسه بقوله: "ربما كان للإثنين معاً!!". ؛؛؛ الأسلحة الفتاكة التي دخلت السودان نتيجة الحرب الباردة على تشاد من قبل القذافي كان لها أثرها في تصعيد الأزمة بشكل مباشر ؛؛؛ ثم يواصل ممداني ليصل إلى أنّ الصحافة الأميركية (بالذات) تبعتْ حركة إنقاذ دارفور (النافذة)، إذ إنها لم تُنفّذ واجباتها التي تحتِّم عليها إبلاغ الرأي العام بالمسائل التي تهمه. فالصحافة الأميركية لم تتحر صحة إطلاق تسمية (الإبادة الجماعية) على العنف في دارفور، ولم تعمل على توفير حيِّز للنقاش بشأنها؛ بل إنّ الجدل بشأن هذه المسألة في أوساط الحكومة الأميركية كان أكبر من الجدل في الصحافة. واتضح ذلك كثيراً في النقاش الذي تلا شهادة مبعوث الرئيس الخاص إلى السودان؛ أندرو ناتسيوس، أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ التي عقدتْ جلسة استماعٍ بشأن دارفور في (11 أبريل 2007م)، والتي قصد فيها (تحرير) المستمعين من الفكرة المبسطة التي تقول إنّ الحرب في دارفور (عرقية يشنُّها العرب على الضحايا الأفارقة). عرب (أشرار) وأفارقة (أخيار) ونقل ممداني في كتابه (دارفور.. منقذون وناجون) حرفياً (حرفياً) ما قاله جلسة الاستماع تلك: (فقدتْ الحكومة السيطرة على أجزاء كبيرة من الإقليم الآن، وبعض أعمال الاغتصاب بالمناسبة يرتكبها المتمردون ضد نساء من قبائلهم، ونعرف ذلك من مخيم للاجئين يسيطر عليه المتمردون الآن بصورةٍ رسمية. لقد ارتكب المتمردون فظائع رهيبة ضد الناس في المخيمات.. وهناك أعمال بربرية تُرتكب ضد الشعب بعضها يرتكبها المتمردون الآن.. لذا أعتقد من الخطأ الافتراض بأن الأمر هو مجرد مواجهة بين الأفارقة والعرب. ذلك ليس صحيحاً البتة. إن السلام لا يمكن أن يستتبْ إذا اعتقد الناس أن الأشرار كلهم عرب، والأخيار كلهم من القبائل الأفريقية.. الحال ليس كذلك. ؛؛؛ المتمردون ارتكبوا فظائع ضد الناس في المخيمات، والآن هناك أعمال بربرية يرتكبها المتمردون، فمن الخطأ الافتراض بأن الأمر مجرَّد مواجهة بين الأفارقة والعرب ؛؛؛ غير أكاديميته واختصاصه في العلوم السياسية، يكتسبُ البحث عند محمود ممداني في قضية دارفور أهيمته التي يستحقها، فكتابه: (دارفور.. منقذون وناجون) كان ثمرة زيارات إلى دارفور وإجراء العديد من المقابلات مع مختلف المجموعات في ولايات دارفور الثلاث (غرب، جنوب، وشمال دارفور). حيث التقى الكاتب منفصلاً زعماء الإدارات الأهلية والأحزاب السياسية (حكومة ومعارضة) وممثلين عن النازحين، هذا بالإضافة إلى الالتقاء بالعديد من الأكاديميين والمفكرين السودانيين، أبرزهم: د. منصور خالد، يوسف حسن فضل، عدلان الحردلو، صديق أمبدة. وهذا ما دعاه في نهاية الكتاب إلى أنْ يخلص إلى أنّ مشكلة دارفور تدعو في التحليل النهائي إلى حلٍّ ثلاثي: إحلال السلام عن طريق المفاوضات، وإصلاح السلطة في السودان. هذا إلى بجانب إصلاح أنظمة الأرض والحكم داخل دارفور للحيلولة دون نشوب حروبات مماثلةٍ ودخولها عبر بوابات النزاع حول الأرض.