يوم الثلاثاء الماضي 12/3/2013م يكون صاحبكم كاتب هذا المقال قد بلغ السبعين من السنوات على ظهر هذه الأرض حسب شهادة ميلاد «وليست تسنين» صادرة من مركز «كورتي» بالولاية الشمالية والتي تقرر أن ميلاد الطفل/ الصافي جعفر البديري الدهمشي هو يوم الاثنين 12/3/1943م الموافق 7 «ربيع أول» «شهر المولد» والمولود بقرية «البار» عمودية جلاس. سبعون عاماً ميلادية مضين على هذا الأدميّ «الصافي» وهو يعيش على ظهر هذه البسيطة ويتقلب في هذه الدنيا ويعيش مراحل شتى: - طفولة في شمال السودان وفي قرية «البار» وفي خلاوى أهله الحجراب حيث قرأ القرآن. - إنتقال من القرية إلى الخرطوم في حي «السجانة» ليبدأ تلميذاً في «مدرسة الديم غرب الأولية» ثم يتدرج فيدخل المرحلة الوسطى في مدرسة «الخرطوم الأهلية الوسطى» في قلب الخرطوم ثم يزحف إلى أم درمان ليدرس المرحلة الثانوية في «مدرسة المؤتمر الثانوية» ثم يعود إلى الخرطوم فيدخل «المعهد الفني» ليتخرج مهندساً مدنياً عام 1968م ثم بعد فترة عملية.. يسافر إلى بريطانيا ليتخصص في علوم المياه في جامعة استراثكلايد بمدينة قلاسجو. ويتقلب في وظائف شتى من أواخرها إنشاء مشروع سندس الزراعي ثم الانتقال إلى المجلس القومي للذكر والذاكرين أميناً عاماً كأنما يتمنى عليه أهل الدولة أن يجمع بين زراعة التروس «سندس» وزراعة «النفوس».. وهيهات فإن هذا شأو بعيد. رحلة طويلة.. وفيض من الذكريات والرؤى وأقدار الله الغلابة تنقلب بالفتى يمنةَ ويسرة.. وبين عسر ويسر ولسان الحال يردد مع أستاذي النور إبراهيم «كان ناظر مدرسة المؤتمر»: إن الحياة سفينةٌ ü تجري بأنواءِ القدرْ الحظُ فيها دفةٌ ü والراكبون على سفرْ والبشر مجبولون على حبّ الحياة وحب الخلود فيها.. وهو حب توارثناه من أبينا آدم عليه السلام عندما أغراه إبليس بالأكل من الشجرة نظير الخلود.. وآدم مجبول على حب الخلود «هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى» فما كان من آدم إلا أن أكل من الشجرة. ولذلك كان حب الحياة من مواصفات الآدميين ومع حب الحياة نحب أن نكون في شباب دائم.. ولذلك كثيراً ما يخفي الناس أعمارهم. أذكر قصة طريفة في أيامنا في بريطانيا وكنت رئيساً لاتحاد الطلاب السودانيين يومئذ والملحق الثقافي المسؤول عن إدارة شؤوننا كان الأستاذ العالم المربي/ إبراهيم نور.. كان الرجل حكيماً.. جئنا كاتحاد نجتمع به لمناقشة مشاكل الطلاب والحماس يملؤنا.. وبدأ الاجتماع بحديث عام منه ثم التفت إليّ قائلاً: اتصلت بك البارحة تلفونياً ولم أجدك.. ووجدت إبنك «جعفر» ودار بيني وبينه هذا الحديث: سألته يا جعفر كيف حالك؟ قال: كويس. كم عمرك يا جعفر؟ فأجاب: عشر سنوات. وقلت له: أنت كبير ولا صغير.. فهتف بصوت عال: «أنا كبير» فابتسمت وودعته.. ثم التفت الأستاذ إلينا ليقول: أنا متعجب من حال الانسان وعشقه للحياة «ناس جعفر الأطفال دايرين يبقو كبار ونحن الكبار دايرين نبقى صغار» ثم ردد أبيات العقاد: صغيرٌ ودّ لو كبُرا ü وشيخٌُ ودّ لو صغُرا وربُّ المال في تعبٍ ü وفي تعبٍ من افتقرا فامتص الرجل الكثير من غضبنا وأعاد إلى الاجتماع كثيراً من الهدوء.. رحم الله أستاذي إبراهيم نور وجيله.. ومن الطرائف أني التقيت مرة الأخ الصديق السبعيني رغم أنفه- الأستاذ/ عبد الله حميدة فداعبته قائلاً: إلى كم تتشبث بالحياة يا عبد الله وقد تجاوزت العمر النبوي؟ فتبسم وقال لي: أي نبي تقصد؟ ألم تسمع عن نبي الله نوح؟ فعجبت لهذا «الشايقي» القادم من الشمال والذي يود أن يعيش ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً.. إنه حب الحياة وكلنا ذلك الرجل. والحقيقة الملاحظة أن كلنا.. يتمنى أن يعيش أطول مدة وأن يظل صغيراً ، ومن أجمل التعابير عن سلوك الانسان مع مراحل العمر ما كتبه الأستاذ الشاعر محمد سعيد العباسي.. فقد كتب وهو إبن الخمسين عاماً قائلاً: يا بنت عشرين والأيام مقبلةٌ ü ماذا تريدين من موؤود خمسين واعتبر نفسه في هذه السن هو من «المؤوودة» تحسراً.. وقال وهو يبلغ الخامسة والستين: وأنكر القلبُ لذاتِ الصبا وسلا ü حتى النديمين اقداحاً وأحداقاً أحبو إلى الخمسِ والستينَ من عُمري ü حَبواً وأحملُ أقلاماً وأوراقاً ثم عندما بلغ السبعين- يا ويحه- قال: سَبعونَ قصَرتِ الخُطا فتركنني ü امشي الهوينا ظالعاً متعثرا من بعد أن كُنت الذي يطأُ الثَرى ü تِيهاً ويستهوي الحِسانَ تَبخترا عمري كتابٌ والزمانُ كقاريءٍ ü أبلى الصحائفَ منه إلا أسطرا أخي القاريء: هي الحياة يا صاح !!! تتقلب بنا إلى أن يبلغ الكتابُ أجله فنترجل.. وأقف كثيراً أمام هذه الآيات وهي تصف مراحل العمر واهتماماته قول الله تعالى في سورة الحديد: قال تعالى: (أعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور «20») الحديد: 20 وينقدح في ذهني أن هذه المواصفات المتراصة تمثل مراحل العمر واهتماماته عند الإنسان: - «لَعِبٌ»: مرحلة الطفولة.. فالحياة عند الطفل هي اللعب. - «لهوٌ»: اللهو مرحلة الصبا الباكر.. فالحياة في هذه المرحلة ملهاة. - «وزينة»: مرحلة الشباب.. الشاب جميل ويحب الجمال والزينة في كل شيء.. في الملبس والمركب والزوجة والمنزل الجميل. - «وتفاخرٌ بينكم»: مرحلة الكهولة.. فالكهل يميل إلى التفاخر بما يملك ويتيه به على أقرانه. - «وتكاثرٌ في الأموال والأولاد»: مرحلة الشيخوخة.. هو التكاثر من الأشياء.. الأولاد.. الأحفاد.. المنازل.. المال.. وأنظر إلى المقارنة بين مراحل العمر ومراحل الزراعة: نمو النبات ثم هيجان ثم اصفرار ثم الحطام.. ثم تذكرنا الآيات.. المآل الذي سيؤول إليه كل ذلك وتنقلنا إلى عالم الآخرة.. حيث العذاب وحيث المغفرة والرضوان. قارئي العزيز: هذه خواطر عنَّت لي وأنا أزاحم السبعين من السنين.. وهي فرصة أحيي فيها جيل السبعينيين خاصة الذين يخفون حقيقة أعمارهم.. أحييهم وأرجو لهم إقامةً طيبةً مع موفور الصحة في هذه الدُّنيا.. üمهندس