برغم كل ما جرى في دارفور ظلت نيالا هي أكثر حواضر الإقليم وعواصمه استقراراً وأمناً، لكنها في الآونة الأخيرة - خصوصاً بعد الانتخابات - أصبحت مرتعاً لعصابات مسلحة - لا ندري إن كانت إجرامية أم سياسية - تقوم بعمليات الخطف والاحتجاز. فلا يكاد يمر يوم أو آخر إلا ونطالع في الصحف عن خطف بعض عمال الإغاثة أو منتسبي «اليوناميد» أو الطيارين أو تحرير رهائن جرى اختطافهم في وقت مضى، هذا غير الأزمات المتكررة بين سلطات الولاية وبعثة القوات الدولية - الأفريقية المشتركة (يوناميد)، وكان آخرها ما جرى أخيراً في معسكر «كلمة». نيالا هذه، زرتها ضمن وفد لمنظمات المجتمع المدني في أواخر عام 2005 عندما كانت الأزمة لا تزال طازجة، وتجولت ضمن ذلك الوفد في كل أركانها والمعسكرات المحيطة بها ومنها «عطاش» و«كلمة»، وتجولنا وتحركنا دون حراسة أو ترتيبات أمنية خاصة واجتمعنا بالنازحين في «كلمة» وغيرها وسمعنا شكاواهم وسجلنا ونشرنا ما جرى لهم، مثلما زرنا مواقع متعددة بغرض التعرف على معالم تلك المدينة البسيطة والساحرة، وللمفارقة ذبح أهلها الذبائح إكراماً لنا نحن الذين جئنا لإغاثة أهلهم النازحين، فأكرمونا في بيوتهم وفي مواقف السيارات التي تعج بالمطاعم الشعبية التي تجيد الشواءات وتقدم أكباد الإبل الطازجة، كان ذلك في عهد الوالي الحاج عطا المنان الذي رحب بنا وأكرم بدوره وفادتنا وشرح لنا أبعاد الأزمة ودور الدولة فيها، وأين أحسنت وكيف قصرت واستمع لأسئلتنا ودخل معنا في حوار عميق طابعه الحدب والحرص المشترك. فقد كانت نيالا وقتها آمنة ومستقرة، وكان الوالي عطا المنان أول والٍ أو مسؤول حكومي يدخل معسكر كلمة كما أبلغنا أهل المعسكر، وكان محل ثقة الجميع هناك، برغم حدة الاستقطاب القبلي والسياسي في جنوب دارفور وفي كل مكان من الإقليم. الآن وبعد الانتخابات الأخيرة، توقع الناس أن تصبح دارفور أكثر أمناً وأن تشهد مدنها الكبيرة وعواصمها مزيداً من الاستقرار، لكن ما حدث هو العكس، فبينما تعيش عاصمة الإقليم التاريخية «الفاشر» أزمة مالية وأخلاقية مدمرة عنوانها «سوق المواسير»، تشكو عاصمة جنوب دارفور غياباً متواصلاً للأمن، خصوصاً للأجانب، وهي مدينة تعج بعمال الإغاثة ومنتسبي المنظمات الدولية والهيئات الطوعية المختلفة، فلماذا هذا الانفلات الأمني في مدينة صغيرة نسبياً، لا هي الخرطوم ولا القاهرة ولا نيويورك أو نيودلهي وهو انفلات على كل حال يدل على أن هناك خللاً وضعفاً وسوء إدارة لا يتناسب مع الأوضاع القائمة في دارفور والتي هي بطبيعتها مأزومة، والدليل الأكبر على هذا الانفلات الذي يصل درجة «الفوضى الأمنية» يمكن أخذه من التقارير اليومية الراتبة التي تنشرها الصحف حول اختطاف وتحرير الرهائن والمؤتمرات الصحافية التي يعقدها الوالي أو معاونوه «احتفاءاً بالنصر والتحرير» في كل حالة «والتعهد بوضع حد للمسلسل»، دون أن نرى أي وفاء لهذه التعهدات حتى داخل حدود تلك المدينة الصغيرة، مسلسل كان آخر حلقاته هو إطلاق سراح الطيارين الروس الثلاثة العاملين بشركة بدر المتعاقدة مع قوات اليوناميد أمس الأول، والذي اختطفوا يوم الأحد الماضي من قلب مدينة نيالا، والذين تم تحريرهم بعملية لفها الغموض كما هي في حالات أخرى، بالرغم من حديث الوالي عن أنها تمت «دون مساومات أو مبالغ مالية»، مع رفضه الافصاح عن الخاطفين، واكتفائه بالقول «لا يمكن أن نفصح عنهم لأجهزة الإعلام» وهذا في حد ذاته موقف غريب يستحق النظر، خصوصاً بعد أن قال الوالي كما نقلت صحيفة «الأخبار» أمس الأربعاء «هناك خاطفون تم القبض عليهم ومحاكمتهم» وآخرون دخلوا في مواجهات مع الأجهزة الأمنية وتعاملت معهم بالقوة»، وربما تكون تلك هي المرة الأولى التي نسمع فيها بأن أناساً تجرى محاكمتهم بعد جريمة مشهورة ومعلوم ضحاياها ويجري التكتم على أسماء المجرمين. فكما يقول الممثل الشهير: ليس المهم فقط تحقيق العدالة ولكن الأهم من ذلك (أن يرى الناس) أن العدالة تتحقق فعلاً، ويبدو أن والي دارفور (المنتخب) ممن يؤمنون «بالعدالة الدكاكينية أو المحاكم السرية».كل هذا كوم، ولكن ما حدث بمناسبة إطلاق الرهينة الأمريكية الآنسة فلافيا التابعة لمنظمة «ساميتارينز بيرس» المعروفة اختصاراً ب (SP) كوم آخر، فقد رأينا الوالي عبد الحميد موسى كاشا في ذلك المؤتمر يقول أشياء غريبة ويأتي تصرفات أكثر غرابة لا يمكن توقعها ممن هو في موقعه أو حجم المسؤولية الملقاة على عاتقة، خصوصاً في ولاية تقع ضمن إقليم يعيش أزمة طاحنة ومدمرة مثل دارفور. فلنبدأ (بما قال) ومن ثم ننتقل (لما فعل) من واقع ماهو منشور ومجمع عليه من كل صحف الخرطوم الصادرة صباح الثلاثاء الماضي، وانتخبنا من بينها الزميلة «أخبار اليوم» لأنها الأكثر حرصاً على «التوثيق» ورصد الأخبار والتصريحات كما هي دونما تدخل أو معالجات تحريرية تذكر فقد أوردت «أخبار اليوم» عن الاجتماع الذي عقده الوالي لدى استقبال الأمريكية المحررة قوله مثلاً: «إن عملية الإفراج تمت دون أي شروط مادية أو سياسية، ونبعث برسالة للشعب الأمريكي بأن الشعب السودان شعب محب للسلام والصداقة، وأضاف كاشا بأن الذين يقومون بتلك الأعمال الإجرامية خارجون عن القانون وإن مثل تلك الأعمال تحدث في أي دولة - إلى هنا كل شيء عادي - ولكن القفزة في «الدراما المأساوية» تبدأ فيما يلي، فقد أعلن الوالي بعد ذلك وبصورة فاجأت الجميع عن طرد السيدة قرو إقلاند المديرة الإدارية لمنظمة (NCA) النرويجية العاملة في مجال الصحة والتعليم والمياه والطواريء لقيامها كما قال: بتحريض الرهينة (بلافيا) للإدلاء بتصريحات (مضللة) بأن الخاطفين عاملوها معاملة سيئة!!! نعم (والله) هكذا أوردت الصحف جميعها أن السيد كاشا غاضب ومستاء من السيدة النروجية إقلاند لأنها «حرضت بلافيا» كما سمعها تهمس للأخرى (في أذنها) طالبة منها أن تقول أن (الخاطفين) عاملوها بطريقة سيئة. فالوالي إذن (زعلان) لأن إقلاند - بالحق أو الباطل - تحرض أو تحث الآنسة بلافيا للإدلاء بما يسيء أو يشوه سمعة (السادة الخاطفين).. هل فهمتم شيئاً؟! وال يحتفي بإطلاق سراح فتاة أجنبية شابة من أيدي خاطفين ظلوا يحتجزونها لأكثر من ثلاثة شهور، ويرفض الإعلان عن من هم هؤلاء الخاطفين، وفي نفس الوقت يطرد أخرى لأنها طلبت منها أن تفصح عما تعرضت له ويسمى هذا «تحريضاً» لا أعرف العلاقة التي جعلت ايقلاند تحضر الاحتفال أو المؤتمر الصحفي وتجلس بقرب الوالي حتى يسمع همسهما ونجواهما ليتخذ ما اتخذ من قرارات ويصرح بما صرح من أقوال. ختاماً لابد من أسئلة، يوجهها البرلمان للسيد والي جنوب دارفور، وطلبت ذلك بالفعل في مكالمة مع بعض رؤوساء لجان المجلس الوطني، أسئلة أولاً عن هذا التدهور والانفلات الأمني غير المسبوق في نيالا، وعن أسباب السرية التي تحاط بها عمليات الخطف والتحرير والإجراءات والمحاكمات بما في ذلك أسماء المجرمين، وعن الذي يجعله يعتقد أن كشف ممارسات المختطفين وتجاوزاتهم يجب التستر عليها، وعن مترتبات مثل هذا التستر على سمعة الدولة وأجهزتها في قضايا تتصل بعاملين أجانب، فهذا بعض ما يجب على المجلس الوطني أن يفعله ممارسة لدوره. وأخشى ما أخشاه أن يقع في روع البعض حكاماً أو وزراء أو نواباً أن وصولهم للسلطة عن طريق الانتخابات يمثل حماية ودرعاً واقياً لهم ضد المساءلة والحساب، فالعكس هو الصحيح فإن المسؤول المنتخب هو الأكثر عرضة للسؤال والحساب الذي قد يصل مرحلة الإعفاء والإقالة، من هنا فإن الذين اعتادوا الحماية والحصانة المطلقة في ظل الشمولية عليهم أن ينسوا ذلك، ويفكروا بطريقة جديدة.. ونحن في انتظار ما سيفعله البرلمان مع السيد والي جنوب دارفور.