قبل يومين كنت في شندي.. الذهاب إلى هناك «يعدّل» المزاج ويريح البال.. و الرحلة دائماً لها طعمها ومذاقها الخاص.. فهي- أي الرحلة- دائماً «منعنعة» والرائحة زكية وطيبة!! كنا في حلة «ود الحاج».. والمناسبة اجتماعية.. التقينا بالأحباب.. وحضرنا مراسم زواج ابنة خالنا وخالتنا في ذات الوقت «وديدة» من الوجيه «عثمان مختار» الذي تعود جذوره «للجوير» غرب شندي.. أي هو في «الحساب» ابن عم العروس.. وأهلنا الكبار يعرفون بسهولة كيفية تأصيل العلاقات التي تربط بين هذا وذاك من هذه العشيرة أو تلك.. فالسودان دائماً «ضيِّق» وفي دقائق معدودة في أي حلقة تعارف ستجد الناس يعرفون بعضهم بعضاً.. ودائماً هناك صلة ما بين السودانيين وربما يكون «الرابط» نسباً أو دراسة أو «جيرة» أو صداقة.. وهذه «القيمة» خير من جسدها ورسمها «الطيب صالح» في موسم الهجرة للشمال: أحس أننا كلنا إخوة!! وعندما أذهب لأهلي هناك أحس بأن كل شيء تمام وهذا ما شعرت به وأنا داخل حوش جدنا ود البشير الإحساس بالانتماء شعور لا يقدر بثمن في أي بورصة.. هذه الوجوه الطيبة تقابلك بالبشر والترحاب.. ذات الألق القديم ونفس البساطة والأريحية.. الزمن يرسم ويضرب بريشته بعنف في الوجوه والسواعد التي كانت فتية ذات يوم. نظرة تأمل بعيدة وغائرة لا تقول شيئاً ولكنها تكشف «الكل» من ألوان المعاناة وأيام الصبر والانتظار التي طالت واستطالت..القوم يصطفون في انتظار إكمال المراسم.. بين صينية «العقد» المحتشدة بالتمور والحلوى والخبيز.. وخطبة الشيخ الوقور ودعوته لإكمال نصف الدين.. والأيدي والأكف المرفوعة بالدعاء الصادق والنابع من القلب.. بين كل هذا وذاك تنداح الخواطر «الأسيفة» من داخل سويداء النفس والفؤاد والتساؤل «المر» عن جدوى مفارقة مثل هذه «الطيبة».. وكل هذه «البركة» بالهبوط للمدن واستبدال كل ذاك بالضجيج و«الهم» و«الغم».. وكل ذاك «القبح» الذي يسكن المدن ويسربلنا بكل أنواع «المسكنة» والمعاناة!! لم يحدثنا أحد عن «ساس ويسوس».. إنها تطل برأسها «المنكوش» عندما نسأل عن الحال والأحوال.. عن الزراعة التي ما عادت تزدهي بها الحيشان وتزدهر.. لم يعد البيت كما رأه الطيب صالح امتداداً لذاك الحقل يخضر وينمو ويرتوي.. تم فك الارتباط منذ وقت بعيد.. لم يتدخل أصحاب القبعات الزرقاء.. ولم تضرب الوفود أكباد الطائرات المسافرة للعواصم البعيدة.. ولم.. ولم.. فك الناس الارتباط بين البيت والحقل.. وأضحى الشباب يولون وجوههم شطر المدن البعيدة «اللئيمة» ويبحثون عن «النعمة» بين الأخاديد والآبار بحثاً عن الذهب.. وما أدراك ما الذهب!! إنهم لا يشتكون ولا يبكون إنهم ينحدرون من قوم يفتخر المرء منهم.. بأنه «يعدي يومو خنق» فما بالك بضيق الحال والذي يعدونه أمراً غير ذي بال ولا يهتمون به!! إنهم لا يشتكون.. ومع ذلك سمعت عجباً.. في الديار آفة هي «الأرضة» تأكل الأسطح والسقوف ولا تترك عوداً ولا خشبة «أو قشة» حتى ينهار المنزل على ساكنيه!! الأعجب أن هذا يحدث والقرية تحت إمرة «معتمد» و«والٍ» ولا أحد يحرك ساكناً نحو هذه الآفة وغيرها من آفات هذا الزمان!!