لا تزال قاهرة المعز مرجلاً يغلي0 لياليها حبلى بكل جديد .. عامان من الإضطراب و الإنفلات الأمني لم يخمدا0 سورة الغضب المنفلت من عقاله بعد 30 عاماً من الإحتباس و الكمون .. أواخر الأسبوع الماضي إنتقل الغضب والإضطراب ومحاولات الإقتحام إلي أكثر الساحات قدسية وجلالاً في أرض مصر إلي ساحة الأزهر الشريف . إنتقال مباغت لم يتوقعه حتي أكثر المراقبين متابعةً وتدقيقاً ، برغم بوادره ومؤشراته المرصودة في المنطقة الواقعة بين ما يمثله الأزهر مصريّاً وعربيّاً و إسلاميّاً وبين ما يمثله نظام الحكم الجديد من توجّهات و أفكار مصدرها الإسلام السياسي و الحركة الإسلامية الحديثة بتياراتها الإخوانية و السلفية .. الجامع الأزهر الذي بناه القائد جوهر الصقلي فاتح مصر ومنشئ الدولة الفاطمية علي أيام المعز لدين الله القادم من المغرب سنة 357 ه .. ومنذ سقوط الدولة الفاطمية أصبح الأزهر قبلةً لتلقّي العلوم الشرعية وتحفيظ القرآن وتفسيره و للفقه على مذاهب أهل السنة و الجماعة ، تُشدّ إليه الرحال ويأتيه طلاب العلم و اللغة من كل فجٍ عميق فأصبح رابعاً بعد الحرمين الشريفين و الأقصي حيث أداء فريضة الحج و سنة العمرة و التبرك بزيارة قبر المصطفي صلي الله عليه وسلم . إمتاز الأزهر عبر مئات السنين بالوسطية والإعتدال و الدعوة بالحسني ، التي رأي شيوخه وعلماؤه أنها جوهر الإسلام ومنهجه الأصيل ، لكن في الوقت ذاته سجل التاريخ لشيوخه وعلمائه مواقف صلبة في مواجهة المحتلّين و الغزاة ، وكان مدخله إلى ذلك وحدة الشعب و الأمة و الحفّاظ على الهوية الوطنية و الثقافية مع تعدّد وسائل المقاومة و أساليبها . ü يوم الجمعة ذهبت لأداء الفريضة في المسجد المجاور لفندق هابيتون حيث أنزل ، وكان موضوع الخطبة هو موضوع الساعة ، ما جرى منذ يوم الثلاثاء في الأزهر جامعةً و مشيخة ، كان خطيب الجمعة - الذي لم أشك أنه أزهري - منفعلاً بالرغم من أن حماسته لم تفقده إتزانه ، وتحدّث كثيراً بلسان مبين عن تفرّق الأمة بسبب الأهواء السياسية والعصبيات الحزبية ، ودافع ببلاغةٍ عن دور الأزهر عبر التاريخ ودوره في وحدة وحماية هوية الأمة وحفظ علومها وتعليم أبنائها وعن إستقلال الأزهر كمؤسسةٍ علميةٍ وشرعية ، ونعى علي الذين يريدون أن ينهوا هذا الإستقلال وهذا الدور التوحيدي وهذه الوسطية و الإعتدال لصالح التطرف و التشدّد بأنهم لا يعون حاجة الأمة إلى كل ذلك في مواجهة خطر التشرذم و التشتت و الإختلاف المفضي إلي الخسران وذهاب الريح و الهوان . ü إنفجار الأزمة المباغته في ساحة الأزهر ، جاء أثر تسمّم أكثر من خمسمائة طالب ببعض داخليات الأزهر في مدينة نصر شمالي القاهرة ، حيث يعيش نحو 24 ألف طالب في تلك المدينة الجامعية يتلقّون العلم في جامعة الأزهر ، فقد شعر بعض الطلاب بالغثيان و الإعياء بعد قليلٍ من تناول وجبة الغداء المكونة من الفراخ و المكرونة ، وبدأت الأعداد تتزايد حتي بلغت المئات ، و أرجع إتحاد الطلاب أسباب التسمم لحالة الإهمال التي تشهدها المدن الجامعية التي لم يستجب مديروها ومسؤولو التغذية فيها لشكاوي الطلاب المتكررة من رداءة الطعام بعد اكتشافهم لأجسام غريبة تخالطه من - دود و سوس - كما جاء في تصريحاتهم .. هبّت سيارات الإسعاف إلى المدينة ومستشفاها ونقلت الطلاّب المصابين إلى مستشفيات أخرى حيث تلقّوا العلاج الفوري ، ولحسن الحظ لم ينتج عن الحادث أي وفيات أو حالات خطيرة وغادر معظمهم المستشفيات بعد ساعات قليلة . ü وبرغم أن الحادث ليس الأول من نوعه لا في جامعة الأزهر أو الجامعات المصرية الأخرى ، إلا أنه تطور بسرعةٍ إلى تظاهرات عارمة و اعتصامات و اقتحامات ، طالت مكتب مدير جامعة الأزهر الدكتور أسامة العبد ومقار مدير المدينة الجامعية ومسؤولو التغذية ، بل أكثر من ذلك إمتدت لمقر شيخ الأزهر قرب الجامع العتيق الذي اعتصم الطلاب حوله وحاولوا اقتحامه لولا تدخّل الأجهزة الأمنية ، ورصدت بعض الصحف المصرية المعارضة دوراً لطلاب وشباب جماعة الإخوان المسلمين في توجيه الطلبة الغاضبين لمهاجمة مقر شيخ الأزهر ، فقالت صحيفة - التحرير- التي يرأس تحريرها الأستاذ إبراهيم عيسي - إن شباب الإخوان توافدوا في مجموعات متتابعة داعين المعتصمين إلى التوجه لمشيخه الأزهر للمطالبة بإسقاط شرعية شيخ الأزهر و إمامه الدكتور أحمد الطيب ، و إن المتظاهرين ردّدوا هتافاتٍ معاديةً لفضيلة الإمام الأكبر من مثل : - حق أخويا ضايع ليه ... عشان خاطر كرسي البيه - . و أشارت هذه الصحف أيضاً إلي الزيارة التي وصفتها بأنها - نادرة - ? التي قام بها رئيس الجمهورية د . محمد مرسي إلى الطلاب المصابين ووقف علي أحوالهم ، كما أشارت إلي كلمة د . عصام العريان القيادي الإخواني البار وزعيم الأغلبية بمجلس الشوري التي هاجم ، خلالها الإهمال الذي يتعرض له طلاب الأزهر في المدينة الجامعية ، وبرغم أنه أكد أن - شيخ الأزهر غير قابل للعزل - لكنه حمّله المسؤولية السياسية وطالبه باتخاذ إجراءات إدارية حازمة تجاه من تسبّبوا في تسمّّم الطلاب . ü المراقبون و المحلّلون السياسيون في الصحف المصرية و القنوات الفضائية ربطوا بين الحدث « تسمّّم الطلاب» وما ترتّب عليه من تفاعلات وتحركات سريعة وعنيفة وبين إحالة الرئيس مرسي قبل ساعات قليلة قانون الصكوك - الإسلامية - الرئاسية في ما بعد - التي إعترضت عليه هيئة كبار العلماء من قبل - إلى الهيئة مرةً أخرى برغم تجاهل مجلس الشورى الذي أجاز القانون و أحاله للرئيس في مارس الماضي للتصديق عليه ، بمخالفة الدستور الجديد الذي تنص المادة الرابعة منه على ضرورة أخذ رأى هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف في كل الشئون المتعلّقة بالشئون الإسلامية وهو التجاهل الذي إستفزّ مؤسسة الأزهر بشدّّة ، فأعلن الأزهر أنه سيدرس القانون ويعلن رأيه حتى رغم عدم إحالته إليه رسمياً ، مما وضع الرئاسة في موقف محرج إذا ما توافقت مع الشوري علي عدم الأخذ بنصوص الدستور ، فاضطر الرئيس إلي إحالة القانون إلي الأزهر قبل إمضائه و التصديق عليه . ü شيخ الأزهر ، بهدوئه المعهود دعا المجلس الأعلى للأزهر لعقد جلسةٍ طارئة الأربعاء الماضي لبحث تداعيات الأزمة ، و أتخذ المجلس مجموعةً من القرارات الفورية لإحتواء الأزمة تمثّلت في إقالة رئيس الجامعة أسامة العبد و الدعوة فوراً إلى انتخاب رئيس جديد ، وتشكيل لجنة لوضع قواعد الإنتخاب وعرضها علي المجلس الأعلي خلال أسبوعين من تاريخه على أن تبدأ إجراءات الإنتخاب فور إقرارها كما قرّر المجلس التغيير الفوري لكل من مدير عام المدن الجامعية بالقاهرة و مدير المدينة ( أ) ومدير عام التغذية ومدير مدينة البنات و إحالة المتسبّبين في الأحداث الأخيرة للتحقيق العاجل ومتابعة تحقيقات النيابة و الإعلان عن عدد من الوظائف الجديدة «عمال وموظفين» بالقاهرة والأقاليم لتحسين الخدمات بالمدينة ، وتعزيزها بالأطباء و الأجهزة اللازمة للعيادات الطبية ، بالإضافة إلى إجراءات أخرى في ذات الإتجاه . ü الطلاب إستقبلوا قرارات المجلس الأعلي بفرحةٍ عارمة ، و إن تردّدوا في فض الإعتصام إلا بعد أن تلقّوا تأكيداتٍ من الأمام الأكبر بعدم ترشيح الدكتور أسامة العبد رئيس الجامعة المقال مجدّداً , ومن ثم توجّه الدكتور الطيب إلي الأقصر مسقط رأسه في صعيد مصر فور انتهاء الإجتماع . أمّا بالنسبة لمن يكون الأوفر حظاً في أعقاب هذه الأزمة التاريخية في رحاب الأزهر فقد سرت تكهنات عديدة لم تتوفر تأكيدات فورية لها إنبنت معظمها علي استنتاجات وليس معلومات ، تقول بأن الدكتور عبد الرحمن البر عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر سيكون هو المرشّح المرتقب و المرجّح بحكم انتمائه السياسي لجماعة الإخوان المسلمين وعضويته في مكتب الإرشاد ، و إذا ما تحققت مثل هذه التكهنات فستعطي بعض المصداقية لما يذهب إليه البعض بأنّ الجماعة ترغب في السيطرة على المؤسسة الدعوية الأكبر في مصر و العالم الإسلامي - الأزهر الشريف - وهذا ما يمكن إدراجه في إطار الممكن ، و الممكن في المنطق ليس له حدود . ومع ذلك فإن عضوية الدكتور البر في الجماعة ومكتب الإرشاد قد تكون عائقاً أمام فوزه بالمنصب إذا ما قرر المجلس الأعلي إستبعاد ذوي الألوان السياسية الفاقعة ضمن الشروط التي يقررها بشأن الإنتخابات . ü وم الجمعة الماضي شهد تظاهراتٍ حاشدةً نظمتها قوى وتيارات و أحزاب وطرق صوفية مختلفة من أمام مسجدي الأزهر و الحسين عقب الصلاة إتجهت إلي مقر المشيخة دعماً للأزهر ودوره و للإمام الأكبر رافعة شعارات من نوع - شيخ الأزهر خط أحمر - وسيطرت الأزمة علي خطبة الجمعة في معظم محافظات الجمهورية و إتفق جلّ الخطباء على دعم مؤسسة الأزهر الشريف ودورها الرائد وطنياً وعالمياً في نشر تعاليم الإسلام وعلومه .