لعل من نافلة القول أن نؤكد أن أهم معالم دين الإسلام وخصائصه الإساسية أنه رسالة عالمية «وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً» هذه الخاصية التي لا ينبغي أن تتخلف عن حياة المسلم وسعيه، أو عن تفكيره ووعيه، وهو يتخذ الأرض كل الأرض مسرحاً لنشاطه ودعوته، ويتخذ الناس كل الناس هدفاً لرسالته وتعاليمه، مرتكزاً في كل ذلك على قاعدة مبدئية تنطلق من رؤية شرعية وأخلاقية لا تهتز بالمؤثرات العابرة أو الأغراض والأهواء الشخصية الخاصة. تلك الخاصية التي كانت واضحة في خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم منذ فجر الدعوة وظل يؤكدها حتى في ساعات الشدة والضعف، فقد بشر صلى الله عليه وسلم سراقة بسواري كسرى وهو مطارد يوم الهجرة!! وأكد ذلك وهو محاصر مع أصحابه صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، فتعترضهم الصخرة فيضربها بيديه الشريفتين بالمعول فيخرج منها النور فيكبر مبشراً أصحابه بالفتوحات العظيمة!! جاءت أمة الإسلام مختلطة الأعراق متنوعة الديانات يعيش في كنفها المشرك المسالم والكتابي المعاهد. أمة من العرب واليهود والفرس والأفارقة والهنود وغيرهم. أما بلدنا السودان فقد كان نتاج تكامل بين كيانات ثلاثة... دولة الفونج ثمرة السلطنة الزرقاء الأفروعربية النوبية وسلطنة دارفور الإسلامية بالإضافة لمجمع قبائل جنوب السودان التي ظلت دون رباط سياسي أو اجتماعي جامع كما يقول بروفسير حسن مكي حتى جاءت المهدية التي انطلقت من هذا التلاقح الاجتماعي ورسخت مطلوبات الدمج القومي ثم تصدت للغزو الأجنبي. لقد ولد مشروع السودان الحديث من ذلك الرحم المختلط الذي يتنفس الثقافة الإسلامية العربية في بيئة أفريقية زنجية ويتطلع دوماً للتواصل الخارجي باعتدال، الأمر الذي يتسق مع التأصيل الإسلامي والتواصل مع الشعوب لا الانفصال. استناداً على ذلك أصبح السودان بلداً مسلماً إسلاماً متصالحاً مع النصرانية ومتسامحاً مع الأعراف المحلية، وظل التداخل العرقي والتكامل الاجتماعي بين أهل الشمال والجنوب هو الأصل مما مكن الشعبين من أن يتعايشا جنباً إلى جنب في أريحية وتواصل مشهود في سائر مدن السودان.... جنوبه وشماله... في السكن والتجارة. والخدمات والصناعة... تجاورت الكنائس مع المساجد دون إعتداءات أو تشاحن وأصبحت اللغة العربية البسيطة هي لغة التواصل حتى بين قبائل جنوب السودان، بالرغم من أن التكامل الاجتماعي لم يبلغ غايته ومداه ولكنه يدفع دوماً نحو الأمام وأن المشكلات التي تحدث أحياناً بسبب الاستعلاء العرقي أو نعرات الجاهلية تنشأ بذات القدر بين قبائل السودان الأخرى فيما بينها. إذا كان هذا هو المشهد الاجتماعي لواقع السودان المعاصر فماهو دواعي القضايا التي يثيرها البعض هذه الأيام بأسم الأقليات غير المسلمة في السودان، ويطالبون بتعديلات يرونها ضرورية بالعاصمة الخرطوم؟ لتمكين غير المسلمين من السهر ساعات إضافية في الاحتفالات أو عدم الصبر على الساعة الواحدة التي يقدسها المسلمون أثناء صلاة الجمعة!! لماذا تثار مثل هذه القضايا بمثل هذه الجرأة وفي مثل هذا الوقت إن لم تكن الفتنة التي يسعى لها بعض أصحاب الأغراض والنفوس المريضة الذين لا يعجبهم هذا النموذج السوداني في التعايش والتسامح الديني. وهل الخرطوم فعلاً في حاجة ماسة وضرورية وعاجلة لمثل هذه التعديلات في التشريعات؟ الخرطوم التي ظلت ولا تزال تحتضن مدارس الكمبوني يدرس فيها أبناء المسلمين وغير المسلمين، الخرطوم التي تبادر فيها الطوائف الكنسية بدعوة إخوانهم المسلمين لحضور أعياد الميلاد ومناسباتهم المختلفة، الخرطوم التي ظلت طائفة الأقباط فيها حريصة على دعوة رأس الدولة وكبار المسؤولين المسلمين لمائدة رمضان السنوية، التي تلبي بلا انقطاع، الخرطوم التي ظل المسلمون يمارسون فيها فضيلة غض البصر عن مظاهر العري وعدم احتشام الفتيات من بنات السودان الجديد اللائي يمشين الهوينا على الطرقات الرئيسية، بل وغض الطرف عن كثير من التجاوزات غير المجازة في القوانين أو الأعراف السودانية، بسماحة أهل السودان وصبر المصلحين على التدرج الرفيق بكافة الناس. إن من ثوابت ما جاءت به اتفاقية السلام سيادة تعاليم الشريعة الإسلامية في شمال السودان بما فيها العاصمة، تعاليم الإسلام التي تبسط على الناس كافة بصفتهم الإنسانية لا بصفتهم الاعتقادية، فالأرض ليست للمسلمين وحدهم، كما أنها ليست حكراً لغير المؤمنين من الأجناس الأخرى.. إنما هي لله وقد جعلها موضوع اشتراك واختلاط بين عباده يسيرون في مناكبها ويأكلون من رزقه ويبلوا بعضهم ببعض في الحياة الدنيا. وتتفق الديانات السماوية كافة على طهر المجتمعات وصون الأعراض وتهذيب السلوك وضبط الحريات وتنظيم الحياة العامة.