كردفان كانت ولازالت تضم في أحضانها مختلف القبائل والديانات وهي تتصاهر مع من حولها من الأجناس عبر تاريخ طويل قد خلا تماماً من أي نزعات عنصرية تجاه الأعراق والأديان واللّغات التي تعج بها أرض السودان، وظلت تعيش هكذا في تناغم وإنسجام تام مع كافة أقاليم السودان، وبوصول السودان إلى هذا المنعطف الخطير يحق لكردفان كعضو أصيل في سائر بدن السودان أن تتداعى ألماً لإنفصال الجنوب وأن تحزن لما يجري في دارفور وأن تتوجس خيفة من مصير بقية أقاليم السودان التي سوف تدفعها سياسات الإنقاذ دفعاً كي تحذو حذو الجنوب. والآن وبعد أن حزمت الإنقاذ أمرها وأعلنت عن تخليها الكامل عن العناصر الأفريقية بأجناسها المتعددة وأديانها ولغاتها المختلفة مكتفية بالعروبة والإسلام بدأ رجالات الإنقاذ يطوون الأرض طياً ويضربون أكباد الإبل في أراضي كردفان المترامية في مغازلة صريحة للجزء الشمالي من كردفان وهم يلعبون على وتر حساس بمبدأ فرق تسد وبالإغراء والملق الرخيص في محاولة بائسة لإصطفاء أهل شمال كردفان من بين الإثنيات التي تحيط بهم من الغرب والجنوب، ليس حباً فيهم وإنما كي يطمئنوا على بقاء شمال كردفان في الدولة الطالبانية القادمة (مثلث حمدي)، كيف لا وكردفان الشمالية المتاخمة للنيل الأبيض من جهة الغرب ذات رقعة جغرافية شاسعة غنية بموارد متعددة والأهم أن سكانها عرب مسلمون. إن إتخاذ الإسلام كدين وحيد وجعل اللغة العربية وحدها لغة رسمية لدولة السودان يعني إنعدام التواصل والتلاقح الثقافي والتعايش السلمي جنباً إلى جنب مع الشعوب الأفريقية وبقية الديانات في السودان، وقد أرادت الإنقاذ أن تتخذ شمال كردفان إمتداداً جغرافياً لدولة الإنقاذ الجديدة، وربما لم تدرك الإنقاذ أن وجود قبائل عربية مسلمة في شمال كردفان لا يشكل وحده مبرراً كافياً لهؤلاء العرب المسلمين يجعلهم يغضون الطرف عن جنوب كردفان أو يديرون وجوههم بعيداً عن تشظي بقية إثنيات وأديان ولغات أهل السودان من أجل أن يلحقوا متعجلين بركب الدولة الطالبانية القادمة أو أن يصبحوا أداة للخيانة والغدر بالجيران والأشقاء ويسهموا مع الإنقاذ في جريمة تفكيك السودان، فالعروبة والإسلام لا يعدّان سبباً مقنعاً لأن تعيش كردفان يوماً واحداً في دولة الإفقار والتجويع والإذلال والتركيع، وإنما يشكلان مبرراً وجيهاً وسبباً بديهياً للبحث عن خيارات بديلة تضمن لأهل كردفان الحرية والعيش الكريم ريثما تغيب شمس الإنقاذ وتشرق شمس السودان الموحد من جديد. إن كان ما ذكر أعلاه مؤسفاً فهو من واقع فشل وغياب المعارضة الجماعية وإتباع أقاليم السودان المختلفة لأسلوب جديد في المعارضة هو أسلوب (خلص نفسك) من هذا النظام الأخطبوط، وهو أيضاً من وحي الخيارات الضئيلة ذات الإتجاه الواحد التي تركتها الإنقاذ لجميع أهل السودان، وأين كان أهل الإنقاذ أصلاً طيلة العقدين الماضيين؟ وماذا فعلوا لكردفان؟ وماذا قدموا للإنسان الكردفاني المغلوب على أمره؟ فكردفان قد ظلت على حالها هكذا منذ إستقلال السودان، الملامح هي ذات الملامح في القرى والمدن والأحياء والشوارع والدروب، فأهل الريف الكردفاني تحطمت آمالهم في الزراعة والرعي بسبب التصحر والجفاف وغياب الدعم الحكومي وإنهيار مرافق الصحة والتعليم فهجروا ديارهم ولاذوا بالفرار مجبرين إلى المدن الكردفانية التي أصبحت بدورها مدمرة وتآكلت بنياتها التحتية بسبب الإهمال والتهميش فعاشت الولاية برمتها معزولة عن بقية ولايات السودان وكأنها تعيش في كوكب آخر علماً بأنها على مرمى حجر من الخرطوم، وبعد الذي نسمعه ونراه فمن ذا الذي يعرف ما تحمله الإنقاذ في جعبتها من أوراق؟ ومن الذي يستطيع أن يتنبأ بتقلبات مزاج الإنقاذ؟ ومن الذي بإمكانه أن يطمئن لأهداف ونوايا الإنقاذ؟ ومن الذي يقول بأن النضال من أجل الحرية والعيش الكريم سوف يخرج العرب والمسلمين من ملة محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم أو من دين الله الحنيف؟. نحن في كردفان لسنا مرغمين لأن نعيش عمرنا كله ونحن نعاني من لسعات الجوع ولهيب العطش ونقص الدواء وإنهيار التعليم وفناء الزرع والضرع وسوء المنقلب في الأهل والمال والولد، سيما وأن رئيس البلاد وهو يصيح على رؤوس الأشهاد قبل أيام في مدينة القضارف قد أعطى خياراً جديداً لمن لا يرغب في العيش في دولته الجديدة التى لا تعترف بتعدد الإثنيات والديانات واللّغات والتي سوف يطبِّق فيها الشريعة الإسلامية ولكن على هدى دولة طالبان التي تحكم في بلاد الأفغان جلداً وقطعاً وصلباً وقتلاً، دون مراعاة لتطبيق الحدود بشكل صحيح ودون مجال لتعطيلها بسبب الفقر والغلاء والفجوات الغذائية المتلاحقة التي تعصف بجميع أرجاء السودان والتي تذكرنا بمآسي معسكر المويلح الذي لجأ إليه نصف سكان شمال كردفان في العام 1983م وأصبحوا باعة متجولين في أحياء أمدرمان وخدماً في البيوت ونكرات ومشبوهين في دار السلام وهم لا يزالون يحلمون بالعودة إلى دار الريح ولكن كيف هو السبيل؟ فكيف بربك سينجو ما تبقى من أهل كردفان في أعوام الرمادة القادمة وهم قد بدأوا بالفعل يتضورون من الجوع تحت وطأة الغلاء وإرتفاع سعر الدولار؟ وماذا يفعل الرعاة والمزارعون؟ وماذا يفعل الطلاب والعاطلون والمرضى والعاجزون عن العمل؟ وماذا يفعل الفاقد التربوي الكردفاني المتراكم والهائم على وجهه في رمال كردفان الشاسعة إزاء إنعدام الحيلة والوسيلة وضيق ذات اليد؟