مولانا وشيخنا عبد الجليل الكاروري.. واليوم نهديك وداً وسلاماً.. ونودعك وداعاً حاراً.. ودامعاً.. هي الرسالة الأخيرة لك.. شاكرين سعة صبركم.. وجميل احتمالكم.. لكلماتنا التي نأمل أن تكون قد وقعت عليكم برداً وسلاماً.. وبما أن الأمر أمر دين.. وبما أننا- أنت وأنا- كنا نخوض في ذاك النهر القدسي.. دعني أهديك صفحة عطرية.. ولوحة قدسية من الأثر ذاك الذي تسللت أشعته الذهبية، وفاحت طيوبه العطرية من «يثرب» .. والقصة هي «كان أحد أغنياء المسلمين يجلس في حضرة النبي المعصوم صلوات الله وسلامه عليه.. فجأة جاء أحد فقراء المسلمين في اسمال بالية وخرق مهترئة، بالكاد تكاد أن تستر جسده.. جلس ذاك الفقير تماماً بجوار الغني أمام النبي صلى الله عليه وسلم هنا جمع و«لملم» الغني ثوبه كناية عن التأفف.. قال له النبي صلى الله عليه وسلم لماذا فعلت ذلك!.. أخفت أن ينتقل ما عندك له أم أن ينتقل ما عنده لك؟.. قال الغني أبداً والله وله نصف مالي.. هنا قال المعصوم ملتفتاً إلى الفقير «أتقبل»؟.. في شعور بالكبرياء وعزة النفس قال الفقير.. لا والله لا أقبل.. قال له النبي صلى الله عليه وسلم ولماذا لا تقبل؟ قال الرجل أخاف إن يصيبني ما أصاب الرجل» انتهت القصة، و«تصدق» يا شيخنا أن نفس هذه القصة قد حدثت لي شخصياً في مسجدك هذا في صحن مسجدك هذا.. جئت في «جمعة» إلى مسجدك لأحضر عقد قران قدر له أن ينعقد بعد صلاة الجمعة.. دخلت المسجد وجلست تماماً جوار أحد السادة الوزراء.. في سرعة الكونكورد وفي خفة الهدهد.. جمع الوزير ثوبه الناصع البياض الذي أشد بياضاً من شخب الحليب حتى لا يلتصق.... «بجلابيتي» التي تشكو «الكرمشة» و«الغباش» ملتفتاً إليّ ووجهه يحمل كل دهشة العالم.. بجمعه أطراف «الجلابية» كان يحاول أن يضع خطاً فاصلاً بين الترف والقرف.. سرحت بعيداً.. بعيداً.. وتذكرت في تلك اللحظة القصة أعلاه.. واصطخب رأسي بأسئلة كما السيل.. تراقصت الأسئلة في «مخي» في عناد والحاح وإصرار.. ماذا لو طلبت من الرجل أن يهبني نصف ماله.. ضحكت- وأنت تخطب.. أجبت على نفسي الأمارة بالسوء قائلاً.. والله لو طلبت من الرجل وبعد انتهاء الصلاة وبعد انتهاء مراسم عقد القران.. لو طلبت منه أن «يوصلني» معه إلى ميدان «جاكسون» لنظر الرجل في وجهي وكأنني مخلوق قد هبط من كوكب آخر.. أو لظن أني مجنون قد «شرد» تواً من مستشفى «التجاني الماحي».. من وحي القصة أعلاه.. أجد لك عذراً شاهقاً شاسعاً وخطبك تخلو من أنين المرضى.. وبكاء الجوعى.. وغضب العراة.. ودموع المظلومين.. فأنت مولانا إمام مسجد يؤمه ويعمره علية القوم.. ولأنك أبداً تجد مسجدك محاصراً حصار «المقاومة في البداوي» بمئات الفارهات من السيارات أبيض.. أحمر.. أخضر زي شفق المغارب.. ولأن فضاء المسجد يعبق بالروائح العطرية النفاذة، لأن عيونك أبداً تقع على تلك اللوحة المشرقة والمترفة.. يتوطن ويتيقن عندك ليس الظن بل اليقين إن كل الشعب السوداني «هكذا» يعوم في الترف.. ويسبح في البذخ.. ويركض في جنان تحفها الزنابق والأزاهير.. لذلك مولانا.. دعنا بل دعني أدعوك أن تتفضل وتصلي معنا الجمعة القادمة في أي مسجد في أطراف أمبدات.. أو ضواحي الثورات.. أو حتى في نواحي الكلاكلات.. أو في ربوع بحري.. أو في شرق النيل.. وبعد أن تطوف بعينيك على صفوف المصلين، وترى بؤساً تعلن عنه الملابس والعيون والأجساد الناحلة والأيدي المعروقة.. أطوف بك أنا وبعد انقضاء الصلاة.. الأزقة الترابية المتعرجة.. أطوف بك المنازل أو الأكواخ المتصدعة.. المدارس والتي هي وكأنها في العراء.. أطوف بك المشافي التي تشكو أرفف صيدلياتها شح الدواء.. أطوف بك ومجتازاً معك كل مساحات الأسى والليل المسهد الطويل.. وبعدها أنا واثق أن خطبك في كل جمعة ستكون شواظاً من لهب ورعداً من غضب تمطر به المصلين المترفين في مسجدك العامر.. مسجد الشهيد. مع السلامة ولك أطنان من الود