قبل ثلاثة أعوام أو ما يزيد، اختار الأخ الكبير الأستاذ علي فقير عبادي عنواناً لبابي في هذه الجريدة العظيمة عنوانه «من وراء البحار». ومع كتابة سطوري هذه فإن إعصاراً بحرياً يسمى «محاسن» بات يهدد حياة 4 ملايين مسلم في شبه القارة الهندية، فربما وضع هذا الخطر عنوان بابي في آخر لحظة وقراءها في حالة تهديد شبيهة بتهديد الحركات المسلحة باجتياح العاصمة.. ومحاسن التي تغنى بها شعراء الحقيبة في وطني وأراقوا عبرها حبر القلب ومحابر دموع العاشقين، يأتي إعصار بيئي لا يبقي ولا يذر ناسفاً معاني العشق الحقيبي، وغير عابيء بتنهدات العاشقين ولا أشعارهم.. ومن فوضى الأشياء في الحياة أن ما قد يكون نوراً في سياق معين لربما كان ناراً في سياقات أخرى.. وهذا ما عناه ابراهيم الكاشف فناننا العظيم حين قال مخاطباً الحبيبة: يا نوري يا، ويا ناري يا، ويا جنتي. قد يكون ناراً في جزء آخر من عالم يضج بالعواصف والأعاصير البحرية. أراد الأخ الكبير في تقديري إكرام وفادة سطوري في وطنها الغالي بإبراز مغزى أن تتعدى مساهمات عاشق للجريدة عوائق الزمن والوقت والمزاج، فتأتي طازجة عبر البحر، حتى إذا قاربت مقرن النيلين، غسلت ثيابها المالحة وارتدت جلباباً من طمي النيل تقدمه كأس وفاء وتواصل مع وطن كم هو مرهق ومكلف البعد عن ساحاته.. إن ما في ذلك الباب أو العمود يأتي من بعيد متخطياً حجب المسافات والأزمنة في عالم صار غرفة صغيرة، تحركها غمضة عين«الماوس» أو نقرة خفيفة على حاسب آلي. وحقيقة أن إكرام الأخ علي لسطوري واستحسانه للكثير من اسهاماتي المتواضعة يجعلني لا أعتمد في قهر كثير من المسائل وحالات العتاب الراقية التي أرسلها من حين إلى آخر، بقدرة أعاصيري الخارقة على غزو القارات والدول، أو استخدامها لإقناع الإخوة في الجريدة بأن يحاولوا معاملتي معاملة عادلة كعاشق لا يحفل كثيراً بالكم في علاقته بالجريدة، ولم يحدث أن دخلت في مفاصلة مع إدارتها تتعلق بحق مادي كمفاصلة القصر والمنشية، وإن كنت قد نوهت بقدرتي على نقل معاركي داخل حرم الجريدة غير عابيء بعشقي الأخوي للراحل حسن ساتي، ولا صلاتي القوية مع الحاج عطا المنان، ولا محبتي لأبي العزائم، ، وعلى فقير، ونازك، ومحاسن النقاشابي، ومأمون العجيمي، وصبا ساتي، والفريق العامل معها، ومنهم نسيبنا الفاضل الولي العجيمي، الذي تطابقت أسماء العلم مع الصفات في شخصه. سعادتي لا توصف وأنا أقضي نذراً كبيراً من عطلاتي الشحيحة في زيارات خاطفة «ممحوقة» إلى الوطن أكتب مقالاتي المتواضعة داخل مكاتبها، وأشرب هناك الشاى التقيل في تلك الدار العظيمة.. فاطراً بالفول في ساحاتها، ومتناولاً لأكياس التمر القادم من الشمال من علي عبادي ممسكاً بالسراب بمحاولة لقاء الحاج عطا المنان!! وكأني به ما عناه الشاعر إدريس جماع «أنت السماء بدت لنا واستعصمت بالبعد عنا».. أعود إلى مهجري وأقضي أيامي مسترجعاً صور الأحبة هناك ومحاولاً- رغم عواصف الزمن- البقاء في ساحاتها طالما كنت أرى من خلالها الوطن لوحة بانورامية ناصعة البياض. في البعد تبدو الجريدة في ثيابها الأثيرية نوافذ دخول موحية وملهمة إلى الوطن الجميل، ومهما كان طعم الجريدة ومزاجها العام وتقلبات الاقتصاد والسياسة، ومرآة الوطن التي لا تستقر من البلوى على حال، فإنك في بعدك تقبل الوطن بكل تفاصيله، والجريدة مهما كان مزاجها العام أو ظلم الأحباء داخلها لك، فإنه يبدو ككأس كان مزاجه كافورا.. ولي في آخر لحظة شجن عميق يقربني منها مهما طالني فيها من إجحاف أو تناسٍ فأنا من الأشقاء الروحيين لكُثر فيها منهم رائد نهضتها الراحل حسن ساتي، الذي كنت ولا زلت أنافسه في حب أشقائه.. المرحوم عبداللطيف والصوفي الشاعر عبدالهادي ساتي. بغياب حسن ساتي عن العالم، فقد الإعلام العربي والأفريقي وجهاً طليعياً افتقدته منابر القنوات الفضائية وساحاتنا الفنية والثقافية... ومثلما عطر القلق الفني أثواب ذلك الرجل المبدع، كان عجولاً في مغادرته لهذا العالم الذي حينما تخلو سوحه من المبدعين، يغدو خراباً حزيناً وصخرياً مرهقاً ومكلفاً.. وتجمعني بالعديد من كتابها صلات فكرية وإنسانية. أيها الأحباب في آخر لحظة.. وسلام عليكم تبدون كالحلم.. وسلام على أبي وضاح في مستقره الأخير.