تخرج المرحوم جمال محمد أحمد في كلية غردون التذكارية قبيل منتصف الاربعينيات، وارتحل طلباً للمزيد من العلم إلى انجلترا، بكلية جنوب غرب إكستر، حيث لفت الأنظار بنبوغه الوضاح وذكائه الوقّاد، وبحيويته الاجتماعية، وهو يقود اتحاد الطلاب الافارقة بالمملكة المتحدة، وعاد إلى السودان مسلحاً بعلم غزير وثقافة راقية وقدرات معرفية عالية.. في رحاب الحياة الجامعية قضى أنضر سنوات عمره، منذ عام 1949م، مشرفاً على الطلاب بكلية الخرطوم الجامعية، ثم كبيراً للمشرفين حتى عام 1956م، حيث انتقل للعمل بوزارة الخارجية، وهناك تواصل عطاؤه.. إلتحق بالسلك الدبلوماسي مع فجر الاستقلال، وتنقل بين أركان الدنيا، سكرتيراً وقنصلاً وسفيراً، ومبعوثاً رئاسياً، ووزيراً مفوضاً.. مندوباً دائماً للسودان بالأمم المتحدة، وكيلاً لوزارة الخارجية وسفيراً متجولاً.. ثم وزير دولة، فوزيراً للخارجية بين عامي 1974 و 1976م. وبذلك الانتماء المبكر لوزارة الخارجية، كان جمال محمد أحمد واحداً من الرعيل الأول الذين أرسوا أسس الدبلوماسية السودانية المستقلة، وصاغوا بجهودهم ومساهماتهم سطوراً مضيئة في تاريخ سودان ما بعد الاستقلال. لم تكن وزارة الخارجية هي المعقل الأخير الذي خدم منه جمال محمد أحمد وطنه وأمته وقارته وعالمه الفسيح.. فقد تواصل عطاؤه بجامعة الدول العربية- في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم- مديراً لمعهد الخرطوم الدولي للغة العربية، وكان حتى الرمق الأخير نجماً مضيئاً في سماء الثقافة السودانية، محاضراً واستاذاً زائراً، وممتحناً خارجياً، ومشرفاً على الرسائل الجامعية والدورات التدريبية وحلقات البحث والدراسة، والتدريس في العديد من المؤسسات الثقافية والعلمية والمراكز المتخصصة، كمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم، ومركز دراسات الشرق الأسوط بجامعة هارفارد. عرف فضله أولو النهي من رموز النخبة السودانية، فكتب عنه ورثاه بروفيسور عبد الله الطيب، ومنصور خالد، والطيب صالح، ومحمود أبو العزائم، ومحمد المكي إبراهيم.. وآخرون كثيرون. وكان وفاؤه لأصدقائه مضرباً للأمثال، وكانت البساطة التلقائية هي مصدر عظمته التي تربع بها في قلوب محبيه، ونال أرفع الأوسمة، والكثير من جوائز التقدير والتكريم.. من رئاسة الجمهورية، ومن جامعة الخرطوم التي منحته الدكتوراة الفخرية عن جدارة واستحقاق. أثرى المكتبة السودانية والأفريقية والعربية والعالمية بكتابات متفردة، تأليفاً وترجمةً وأختياراً.. وغاص بقلمه الرشيق في دهاليز النفس وتلافيف الوجدان، فأخرج للناس من أعماقه شذرات عطرة شكلت إضافات هامة في تراث الثقافات الإنسانية المعاصرة.. وتتوشح اسهاماته بدبياجات مشرقة، وببيان ناصع، وبلغة بديعة تتقطر سلاسةً وعذوبة.. وعبر كلمات منتقاة أنيقات تنساب العواطف الجياشة، وتتدفق الأحاسيس المرهفة، وتنسكب بين السطور والحروف مشاعر الانتماء إلى الانسان في موطنه الصغير، وبوطنه الكبير وقارته وعالمه العريض.. توالت كتبه ومؤلفاته.. وتواصلت مشاركاته في البحوث والندوات والمنتديات الثقافية والفكرية.. وحقق لقلمه مكانة مرموقة متقدمة، في الصف الأول لكتاب افريقيا ومفكريها، واستطاع الراحل جمال أن يبتدع معالجات أدبية وفكرية متميزة للواقع الافريقي في التاريخ والتراث والأسطورة.. وتقف مجموعته «حكايات من سره شرق» نموذجاً سامقاً للابداع الادبي المرتبط بالجذور الانسانية الدفينة، وتفاوت انتاجه الفكري بين التأليف باللغتين العربية والانجليزية «سالي فو حمر»، ومطالعات أفريقية، و «وجدان افريقيا» كما كتب عن الدبلوماسية السودانية، وعن المسرحية الأفريقية. وله كتب ألفها باللغة الانجليزية عالج فيها العلائق العربية الأوربية و«الجذور الفكرية للقومية المصرية» وبالانجليزية ايضاً كتب كتابه الشهير «حكايات من سره شرق» عاد من خلاله إلى مسقط رأسه في قريته القديمة.. أما كتبه المترجمة من الانجليزية فقد اختار لها أن تكون عن «الدولة الاتحادية» و «افريقيا تحت أضواء جديد» ثم استرسل في «الافريقيات» فترجم كتاباً قيماً عنوانه «العنصر الانساني في التطور الافريقي». طاقات انسانية دفاقة بالعطاء الودود كانت تملأُ أعماق جمال، منذ نعومة أظفاره.. وهو يرتقي مدارج الحياة.. مطلع الشباب في مؤتمر الخريجين ومنتدياتهم وأنديتهم، رئيساً لاتحاد طلاب كلية غردون 1935م وسكرتيراً للهيئة السنوية لمؤتمر الخريجين في أول اجتماع لها عام 1936م، ومنذ تلك الانطلاقة المبكرة وحتى نهايات عمره القصير عاش جمال محمد أحمد عالماً حافلاً بالذكريات والخواطر والانطباعات، عن دنيا عريضة عاشها وشارك في صياغتها.. وظلت انفاسه تتردد بين جنبات الزمان، وروحه تهوم في أركان المكان.. فكان ملء السمع والبصر، رحمه الله.