هذه قصة رجل نوبيّ المنبت، إفريقيّ الهوى، عربي اللسان، عالميّ الإنتماء.. هو رجل أهدته أرض النوبة إلى السودان، فتجاوز عطاؤه حدود وطنه وقارته، وتسامقت إبداعاته تعانق هامات النخيل، وتجاوز الجوزاء، وتتواثب في فضاءات الآداب العالمية.. اسمه جمال محمد أحمد، كان علماً بارزاً في دنيا الثقافة الإفريقية المعاصرة، رحل عن دنيانا قبل أكثر من ربع قرن من الزمان، وما زال اسمه يختزن رنينه القديم، منحوتاً في أصداء الذاكرة الثقافية والأدبية لإنسان القرن العشرين، وما زالت آثاره وكتبه وأوراقه ينابيع صافية.. ينهل منها كل دارس أو باحث في الشأن الثقافي، أو الفكري، أو السياسي في السودان وأفريقيا خلال خمسين عاماً، تبدأ في بدايات الثلاثينيات وتنتهي منتصف الثمانينيات.. كانت تلك أحلى سنوات الزمن الجميل، الذي تقف فيه سيرة الأستاذ الدكتور جمال محمد أحمد رمزاً عبقرياً لسيرة كوكبة من رجال آخرين من بني عمومته- في أرض النوبة- شكلوا معاً تروس الحركة الوطنية في سودان الأربعينيات.. وتنبثق من قلب وهج الشعاع حزمة مضيئة من أسماء لشخصيات فذة لعبت أدواراً مهمة في صياغة تاريخ السودان الحديث والمعاصر.. رأى النور فوق ضفاف نهر النيل، في قرية وادعة صغيرة، كانت هي «سرّه شرق»: التي كتب جمال اسمها حتى في مدخل داره بالخرطوم أو «لندن» ترسيخاً لذكراها، ورمزاً لتعلقه بها. ومن قلب «سره شرق» هذه انطلقت مسيرته في الحياة في ابريل 1915م. كان جمال محمد أحمد تجسيداً حياً متحركاً لمضامين الارتباط بالأرض التي تغوص في أغوارها جذور الإنتماء، وكانت «سره شرق» هي الواحة الدافئة التي كان يلجأ إليها بفكره الوثاب، وروحه المتسامية وخياله الفسيح.. وكانت ذكريات الطفولة وإشراقات الصبا ومغامرات الشباب تشكل في وجدان جمال شجرةً وارفة الظلال، مشرقة الخضرة، ممتدة الأغصان.. يانعة الثمار.. كان الفقيد معلماً، إدارياً، دبلوماسياً: سفيراً ووزيراً.. وأتاحت له قدراته الفكريةُ المتميزةُ أن يتبوأ أرقى المراقي.. وكانت الوظائف تتشرف به.. وكان هو دائماً قامةً شامقةَ الارتفاع، يتسامى فوق الضغائن، ويترفع عن السفاسف والصغائر.. حتى عندما يتنكر له بعض تلاميذه.. أو حين يتعالى عليه بعض المتنطعين من جاهلي فضله.. فيظل في كل الظروف كالطود العظيم.. ويظل كالريحانة العتيقة، ينتشر شذاها الأنيق ويترقرق عطاؤها الدفّاق. بين جوانحه المضيئة احتفظ جمال بقرويته القديمة، وفي ثنايا ضلوعه ظل قلمه يرتوي برحيق التاريخ وعبق الماضي وبقايا الأمس الراحل.. وتتراءى إسهاماته الأدبية والفكرية حلقات متكاملة تترابط فيها ذكريات الطفولة والصبا في سره شرق، وفي حلفا القديمة.. وبين جدران صروح شاهقة عاش بينها دارساً ومعلماً وإدارياً.. ومشاركاً نشطاً في فعاليات حيوات كانت تموج بها تلك الربوع: في كلية غردون التذكارية، وبين جدران وادي سيدنا الثانوية، وفي بخت الرضا، وجامعة الخرطوم.. وفي كل مكان عاش فيه جمال محمد أحمد كان يترك وراءه بصمات غائرات.. فهو من قوم كرام السجايا أينما ذهبوا يبقى المكان على آثارهم عطرا.. في قلبه كانت «سره شرق»، يهفو إليها أينما كان، ويحن إليها حتى وهو في «أكسفورد»، أو «هارفارد».. ويشتاق إليها حتى وهو تحت سماء القاهرة أو بيروت وباريس.. وحيثما كان، كان يحمل لقريته الموءودة أنبل ما يعتمل في النفس البشرية من إحساس دافق بالحنية إلى أرض عريقة غريقة.. احتواها النيل وابتلعها الفيضان، وأصبحت أثراً من بعد عين.. لكنها برغم ذلك كله ظلت في سويداء الفؤاد.. مثلما ظلت أخواتها الأخريات قرى النوبة الحزينات، التي ما تزال ذكرياتها القديمة نابضة بالحياة في قلوب أبنائها.. بعد خمسين عاماً من الطوفان الجبار الذي تلاشت بعده مراتع الطفولة ومسارح الصبا ومثوى الجذور.. لا يزال الناس يذكرون حلفا دغيم، وفرص، ودبيره، وأرقين، واشكيت، ودبروسه.. وما يزالون يذكرون عنقش، وجنساب، وعمكه، وجمي، وصرص وسمنه.. وكانت مأساة الإغراق والتهجير واحدة من المحطات الرئيسية في حياة جمال، وهو يعايش مقدمات الزوال للوطن النوبي الجريح. كان جمال قريباً من أهل قريته «سره شرق»، وهم يتوجسون قلقاً من المصير الغامض الذي كان ينتظر القرية، وهم يحزمون أمتعتهم، ويلملمون أطراف روابطهم بأرض وُلدوا عليها وشبوا فوقها، وترعرعوا بين نخيلها.. وجاسوا خلال الديار.. ومن «أديس أبابا»- حيث كان سفيراً للسودان باثيوبيا- كان جمال يتابع أخبار الإرهاصات الأولى لكارثة الإغراق والتهجير.. واقتلاع الجذور.. وكانت «سره شرق» في خاطره وهو يتواصل بالكتابة والاتصال المباشر وغير المباشر، بوزير كبير في حكومة عبود، يشير عليهم بأن يترفقوا بأهله، ويوصيهم بأن يتريثوا في معالجة الأمور بالحكمة والرفق واللين.. عطفاً على أهله وإشفاقاً من المصير المجهول الذي كان ينتظرهم عند قيام السد العالي.عمل معلماً في شبابه الباكر بواحدة من أرقى ثلاث مدارس ثانوية في سودان أواخر الثلاثينيات، وتتلمذ على يديه في وادي سيدنا الكثيرون.. ثم التحق بمعهد بخت الرضا: مساهماً نشطاً في التدريس وفي تدريب المعلمين، وفي تأليف الكتب المدرسية ووضع المناهج.. وهناك- في بخت الرضا- تفجرت ينابيع العطاء المدرار الذي أثرى به جمال محمد أحمد وجدان الإنسان السوداني.. مخلفاً بصمات بارزة في تراث السودان التربوي: في كتب المقررات الدراسية، وفي مراشد المعلمين.. وفي المجلات والإصدارات التربوية المتخصصة.. من الصحف الحائطية المعبِّرة إلى مجلة الصبيان إلى الكتابة المتخصصة في أدب الأطفال الذي كان هو واحداً من الرواد الذين وضعوا له اللبنات الأولى في المكتبة السودانية.