جاء رجل ذو مال موسع.. يفيض على أهل بلدته بقدر من هم ماكلون من سعيه وحصاد الأرض من فومها وعدسها وقمحها.. جاء يتخبأ ليلاً بعد صلاة العشاء إلى دار مؤذن مسجد بلدته وفي نفسه شيء من سؤال غائر في مداخله وبينما هو على مقربة من دار المؤذن المكون من القنا والقصب المتماسك وعرش من جلد قديم.. سمع صوت المؤذن يخاطب والده الذي تقدم في العُمر.. وتوقف ذلك الرجل الثري مندهشاً.. حائراً بعد أن نالت مسامعه هذا الحوار الذي جرى بين مؤذن المدينة وأباهُ الذي لازمه الكبر.. ونالت السنين من عظمه ولحمه فأصبح منهوكاً تماماً.. أقول.. سمع ذلك الرجل الثري كلمات تنفذ من فاه الرجل العجوز لابنه.. وهو يقول إني راضي عنك رائحاً وقادماً.. واعطاك الله بقدر اخلاصك لي مقعداً في الجنة ووهبك في الدنيا محبة الآخرين وملأ قلبك بالايمان والاحسان.. وعندما قال لابنه ومنحك من مال الدنيا.. قال له حسبُك والدي.. أخاف السؤال.. قال الوالد لابنه المؤذن.. أي السؤال.. فاجاب كيف تحصلته وفي أي شيء انفقته.. قال الوالد.. وان كان حلالاً موقناً في الاكتساب.. قال الابن لوالده.. دعني أقول اليك يا والدي وبصوت هاديء ومتوازن.. عفوك لي الذي اسمعه كل صباح هو رضاءٌ للخالق وثمرته هي حصاد الآخرة.. والمال زينة الحياة الدنيا.. والسؤال عنه في الآخرة يقلل من الوصول إلى مرافيء الجنان العلى.. فأختلت مشاعر الرجل العجوز وبكى بصوت خافض.. فألتمس يد ابنه اليمنى واعتصرها في صدره.. وقال له متى حفظت القرآن يا ابني قال له.. منك.. وأنا في الثانية عشر من العمر.. فأعقبه بسؤال ثاني كم من الزمان تلازمني في هذا الفراش.. فقال لوالده أحسبها ثلاثون شهراً تمر عليّ من شهر الصيام «أي ثلاثون عاماً» وانا بجوارك سعيداً غادياً ورائحاً.. فأذهب بعد صلاة الفجر ابتاع في السوق بعد أن أعد لك العُدة واسقيك من غنمنا لبناً دافئاً وارحل اليك ضحاً مشفقاً أردد في نفسي هذا الدعاء.. فقال الوالد لابنه المؤذن.. أي الدعاء.. قال.. اللهم يا حنان يا منان صَّب له من الحسنات من وعاء الفردوس عسلاً ولبناً غير أسن.. فقد رباني وأحسن تأديبي.. وحماني وحفظني في الدنيا من الموبقات وسوء السؤال لغيرك.. وعرفت الحق تماماً فحفظت.. وحفظت نفسي.. اللهم اصبغني برضاك ورضاءه حتى القاهُ في الجنة. فشهق الرجل «المسن» شهقة أولى وقال لابنه بصوت بعيد ما بين الصدر ووسط البطن.. اسمع صوت يقول لي قبلانكم بجوارنا.. ولحظتها فاضت روح ذلك الشيخ الورع.. فردد الابن الحمد لله بالقبول.. وأرى يا والدي في وجهك السرور. هنا ارتجفت مفاصل صاحب المال الذي كان يستمع لذلك الحوار المشهود.. فانحل مئزر صدره من الحرير الخالص وبكى بصوت عالٍ حتى توافد القوم من خيامهم هنا وهناك.. وهو يقول لقد خسئت.. وحسرت.. و خسرت.. لقد خسئت.. وحسرت.. وخسرت.. هنا أهل الجنة حقاً وصدقاً.. وبدأ أهل المكان يتوافدون يحادثون انفسهم فيما جرى.. وأذن مؤذن الفجر بصوت الابن.. وعقب الصلاة.. شيع ذلك الرجل التقي الورع لمثواه الأخير..وصاحب المال ممسك بالابن يخاطبه قائلاً اعطيتك نصف مالي لتكون بجواري.. فيرد المؤذن بهدوء أأبقدر ذلك «القبول» فيبكي صاحب المال بشدة.. ويقول له ثانية اعطيتك مالي وزوجتك ابنتي الوحيدة.. فيرد المؤذن أأبقدر ذلك القبول.. فانزاح هنا ستار الحوار.. وتوضأ ذلك الرجل وجلس على قبر أبيه يدعو.. ويدعو.. وصاحب المال يقول هنا إشارات الجنة.. هذه الرواية أو الحكاية سمعتها قديماً باسلوب أوسع تحت مسمى «بقدر القبول» وكانت لها وقع في أبناء جيلنا وما قبلهم وتبدو المسائل الدقيقة في حقوق الوالدين تصاب بالخمول في مجتمعنا الاسلامي عموماً.. فنقرأ ونسمع مآسي وخلافات بين الابناء للوالد.. والوالدة.. لدرجة الاختراق.. أما مرحلة القتل تصيبني بالانهيار الكامل.. اللهم احفظنا كما حفظنا حقوق والدينا حتى انتقلوا إلى الآخرة.. ولا تجعلنا عُرضة لابنائنا حتى نلقاك.. نسألك القبوول..