ü جاء في الأخبار أن شركة الخطوط الجوية الألمانية «لوفتهانزا» قررت وقف رحلاتها بين الخرطوم وفرانكفورت بدءاً من 19 يناير المقبل، وذلك بعد (51) عاماً من العمل على هذا الخط، وعزت مصادر الشركة القرار إلى «أسباب اقتصادية» وسيفقد (12) من العاملين السودانيين بالشركة وظائفهم جراء هذا التوقف.. وكانت الخطوط الجوية الهولندية «كي إل إم» قد أوقفت رحلاتها بين الخرطوم وامستردام منذ بداية العام الحالي بسبب «زيادة التكلفة».. هذا طبعاً غير الشركات الوطنية التي خرجت من الخدمة وبلغ عددها حتى الآن 9شركات، وكان آخرها «مارسلاند» التي أبلغ أحد موظفي الحجز بمكاتبها وكالة الصحافة الفرنسية (الأحد) أنهم قد أوقفوا رحلاتهم «في الوقت الحالي»، وتلك قصة أخرى. ü اتصلت بعد قراءة الخبر بصديق خبير في مجال الطيران، مواصلة لاتصال سابق من جانبه عندما قرأ قبل ثلاثة أيام «اضاءتنا» حول ذات الموضوع والتي جاءت تحت عنوان «إلا كما طار وقع» فأوضح خلال ذلك الاتصال ما غمض علينا من أسباب توقف تلك الشركات الوطنية، وهذا ما سنعود إليه في آخر هذه الإضاءة. ü قلت لصديقي الخبير الجوي، الذي وجدته لحسن الحظ مطلعٌ على ذات الخبر المنشور بحريدة «الخرطوم»: هل يعني هذا أننا سنكون «خارج الشبكة» بالنسبة للطيران الأوروبي مع بداية العام المقبل، فرد بالإيجاب، وقال إن «لوفتهانزا» كانت آخر الخيوط المتبقية في نسيج تلك الشركة وإذا ما انقطع ذلك الخيط، فنكون خارج هذه الشبكة تماماً، خصوصاً بعد مضي نحو العام على توقف ال«KLM» وقبلها ومنذ أعوام توقف الخطوط الجوية البريطانية (BRITISH AIRWAYS). ü أما عن شركاتنا الوطنية وفي مقدمتها «سودانير»، التي كانت يمكن أن تشكل جسراً جوياً يعوض عن غياب تلك الشركات.. فحدث ولا حرج، فسودانير حالها يغني عن سؤالها، بعد أن تمت «خصخصتها» وبيعها لشريك عربي، عادت بعده «مطلقة.. وشها إلعن قفاها» ودفنت أهم فلذات كبدها «خط هيثرو»- الواصل بين الخرطوم ولندن- ولا زالت التحقيقات بشأنه «تمشي وتقيف» انتظاراً «لنبش القبر» حتى يتم التحري في «أسباب الوفاة المفاجئة»!! أما عن الشركات الوطنية الأخرى التي كانت يمكن أن تشكل هذا الجسر الواصل فقد توقفت حتى قبل خروجها الأخير من «الشبكة المحلية»- بسبب عدم قدرتها على الوفاء بمطلوبات الكفاءة التي تشترطها المنظمة العالمية للنقل الجوي ال«إيكاو»-INTERNATIONAL CIVIL AVIATION ORGANIZATION- وبحسب صديقي الخبير الجوي فإنه عندما استجابت «إكاو» لمساعي الطيران المدني السوداني وقررت السماح لثلاث شركات سودانية بالعمل على الخطوط الأوربية لم تكن هناك شركة واحدة مؤهلة لذلك، ومن بين تلك المطلوبات عمر الطائرة وصلاحيتها الفنية وخصوصها وخضوعها لدورات الصيانة الحتمية حسب ساعات الطيران. ü عليه، لم يعد بإمكان المسافر السوداني المتجه إلى أوربا إلا الحجز «ترانسيت» على الخطوط السالكة إلى القارة الأوربية من مصر أو دول الخليج أو تركيا، ليأخذ الطائرة من هناك ويصل إلى العاصمة الأوربية التي يريد، وهذا ينعكس- بالضرورة- على قيمة تذاكر ذلك المسافر ويزيد النفقات. ü أما عن أسباب خروج الشركات الوطنية من العمل فقد أوضح محدثي أنه بالاضافة إلى التكاليف المترتبة على زيادة الوقود وغلاء الخدمة المقدمة في المطارات السودانية- وفي مقدمتها مطار الخرطوم- فهناك أسباب جوهرية أخرى تقف وراء ذلك الخروج والانهيار لصناعة الطيران الوطنية، وهي أسباب «ذاتية وداخلية» تتعلق بإدارات هذه الشركات.. حيث ظن الكثير من التجار «الجلابة» وبعض الموظفين «الميسورين» أن صناعة الطيران صناعة مربحة فهرعوا يسجلون شركات النقل الجوي، دون أن يتوفر لهم الحد الأدنى من المعرفة بأسرار المهنة ال«KNOW HOW»، وبالفعل أصاب بعضهم النجاح في مبتدأ الأمر. لكن ولأنهم لا يعلمون تلك الأسرار لجأوا لتأمين أوضاعهم الذاتية وترفيه أنفسهم بتلك المداخيل التي درها عليهم العمل بالطيران في البداية، فاشتروا الأراضي والفلل الفخمة والعربات الفارهة، وعندما حان وقت «الاسبيرات والصيانات» ومستلزمات تسيير العمل الأخرى لم يجدوا في خزائن تلك الشركات وإداراتها ما يقابل تلك المتطلبات الباهظة، فأخذ بعضهم يتعلل بغلاء الوقود والخدمات الجوية للخروج من الخدمة، فبرغم حقيقة ذلك «الغلاء» إلا أنه ليس العنصر الوحيد وراء «الكارثة الجوية». ü وبالنسبة لتوقف الشركات الأجنبية، فيحدث صديقي الخبير الجوي أن السبب الرئيسي وراء تراجع تلك الشركات عن العمل مع السودان هو في قلة عدد المسافرين على تلك الخطوط، فمع تراجع دخل المواطن السوداني أصبح السفر إلى الخارج وإلى أوربا والعالم الأول عموماً مقصوراً على «الضرورات» كالعلاج أو المهمات الرسمية، وحتى عدد الطلاب الذين يدرسون في الجامعات الأوربية أصبح قليلاً إن لم يكن منعدماً، وبالتالي وجدت تلك الشركات الأجنبية أن تسيير رحلات إلى الخرطوم، منها وإليها أو حتى عبرها، يكبدها خسائر غير ضرورية وما «جايب حقُه»- كما يقولون- فقررت التوقف عن العمل. ü هذه هي باختصار صورة صناعة الطيران في بلادنا، صورة أخذت تتهشم وتتردى باضطراد، بكل ما يترتب على ذلك من أضرار آنية ومستقبلية.. صورة تبعث برسائل في منتهى السلبية عن أوضاع السودان الاقتصادية، خصوصاً لأولئك المستثمرين الأوربيين، الذين نبعث وراءهم الوفود ونعقد من أجلهم المؤتمرات في روما وبروكسل ومدريد ونبشرهم بالخير الوفير الذي ينتظرهم في بلادنا.. فكيف إذا قرر أحد المستثمرين السفر إلى الخرطوم لانجاز اجراءات تسجيل شركته في الخرطوم وبدء العمل ونقل معداته ومعيناته إلى السودان.. هل عليه أن «يتشحطط» من مطار إلى آخر حتى يجد طريقه إلى الخرطوم؟! ألن يكون أول سؤال يخطر على باله: ماذا لو تمكنت من الوصول وانجزت عملي وأفلحت في انتاج وفير، فكيف لي أن أنقله إذا ما أردت شحنه جواً للحاق بالأسواق الأوربية في مواسم معينة؟! هذه وغيرها أسئلة تحتاج إلى إجابات من الدولة قبل الشركات، لأنها تدخل في مضمار «البنى التحتية» التي على الدولة توفيرها إذا ما أرادت لموارد السودان الوفيرة أن تكون جاذبة وتحت نظر المستثمرين الأجانب، وإلا فليشرب الجميع «اللينة دي»!