قبل يومين كتبت في عمودي «خارج الصورة» بعنوان «مانديلا والسودان» وأوردت إشارات قالها الدكتور إبراهيم دقش عن علاقة الزعيم الأفريقي الراحل بالسودان، وتساءلت عما إذا كانت هناك حقائق إضافية يمكن أن تقال للحقيقة والتاريخ. وفي ذات اليوم الذي نشر فيه العمود جاءني تلفون من سيادة اللواء ركن دكتور عمر النور أحمد النور مدير إدارة المتاحف والمعارض والتاريخ العسكري يحدثني بإعجابه عن ما سطرناه، وقال ما تريده من معلومات بحوزتنا، واتفقنا على أن أقوم بزيارته في المتحف الحربي «النقل الميكانيكي سابقاً»، وهذا ما حدث بالفعل، أمس الأول جلست مع محدثي د. عمر، وهو بالإضافة إلى وظيفته الرفيعة في القوات المسلحة فهو من العلماء المعروفين ويحمل مؤهلات وشهادات دكتوراة في التاريخ والإعلام وصاحب قلم معروف في عدد من الصحف السودانية والإصدارات العلمية والعسكرية والتاريخية ومنها الإصدارة الدورية التي تصدر عن المتحف الحربي!! قلت لسيادة اللواء رغم أني كنت من أشد المعارضين لقرار تصفية النقل الميكانيكي إلا أنني أشعر الآن بشيء من الارتياح لأن جزءاً من المكان قد تحول إلى متحف حربي يحوي جزءاً من تاريخنا العسكري والحربي وهو تاريخ ملك لكل الأجيال كما أن هناك لمسة جمال واهتمام واضحتين بهذا المكان، والذي كاد أن يتحول لأطلال بسبب القرار الظالم بتصفية النقل الميكانيكي وشطب دوره من الحياة وقطعاً لن ينسى التاريخ لعن صاحب هذا القرار!! ونحن في حضرة اللواء عمر قال لي ساسلمك مادة كاملة قمت بإعدادها عن زيارة نيلسون مانديلا للسودان في 1962م هذه الزيارة التاريخية والتي كانت نقطة تحول في تاريخ النضال الجنوب أفريقي. والقصة بدأت عندما ذهبت شركة أمريكية متخصصة في الإعلام إلى نيلسون مانديلا بغرض توثيق قصة نضاله في فيلم وذلك بالتركيز على محطات نضاله في جنوب أفريقيا وارتريا وموزمبيق، ولكن مانديلا فاجأ محدثيه بأن يذهبوا للسودان باعتبار أن نضاله الأساسي بدأ من السودان. اندهش الأمريكان من هذا الموقف وذهبوا للقاء سفيرنا في اثيوبيا الفريق عبد الرحمن سر الختم والذي اتصل بالملحق العسكري في أسمرا ونقل إليه رغبة الشركة الأمريكية في أن تتوفر لها بعض حقائق علاقة مانديلا بالسودان. وكان من الواضح والحديث لا زال لسيادة اللواء عمر أن الأمريكان لا يريدون الذهاب للسودان ومع ذلك فقد استجبنا لطلبهم بعد أن كلفني وزير الدفاع عبد الرحيم محمد حسين بإعداد هذه المادة عن أول زيارة لنيلسون مانديلا للسودان وقد بدأتها بهذه المقدمة والتي تقول: ü سطّر السودان صفحات جليلة في سجل التضامن الأفريقي وفقاً لمواقفه الرائدة والقوية الداعمة لكافة حركات التحرر ومناهضة التفرقة العنصرية بجنوب أفريقيا، ولقد ظلت حركات التحرر في كل من أنجولا، جنوب أفريقيا، زيمبابوي، ناميبيا، موزمبيق، تجد كافة أنواع الدعم من السودان، ولقد ساهم السودان في دعم حركات التحرر الأفريقي خاصة في جنوب أفريقيا، وقد اتخذ الدعم جوانب شتى منها الدعم المعنوي والتأييد المطلق في المواقف التي طرحت على المستوى الأفريقي والدولي، واستضاف السودان على أرضه مئات المناضلين من أجل الحرية، كما كفل لهم الحرية والحياة الكريمة على أراضيه لحين إعدادهم لمهامهم المستقبلية. وزيارة نيلسون مانديلا في مطلع 1962 خطط لها بواسطة وزارة الحربية (الدفاع) مع وزارة الخارجية بالتنسيق مع الاستخبارات العسكرية وكان وقتها وزير الدفاع الرئيس إبراهيم عبود نفسه يشغل المنصب ووزير الخارجية أحمد خير ومدير الاستخبارات العسكرية محمد الصادق فريد وحرسه الخاص أحمد يحيى منصور. وتم استقبال المناضل نيلسون مانديلا بالمطار، وكان في استقباله اللواء محمد نصر عثمان (أبو يمن) وزير الاستعلامات ومدير الاستخبارات. ثم استضيف بالفندق الكبير (الذي تم إنشاؤه عام 1902م وتم تجديده في مطلع الستينيات. ونزل ضيفاً على الغرفة 217 المطلة على النيل الأزرق لمدة أربعة أيام عام 1962. وتم اللقاء أثناء تواجده بوزير الخارجية أحمد خير بمكتبه بوزارة الخارجية. ولقد كان للسودان موقف مشرف ضد التمييز العنصري في جنوب أفريقيا ويعد من أوائل الدول الأفريقية التي ثبتت ودافعت والتزمت بمساندة حركات التحرر الأفريقي ومن بينها حركات جنوب أفريقيا، ويعد السودان الدولة الأولى في أفريقيا التي اتخذت قرار مقاطعة نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، لقد شمل نظام المقاطعة عدم السماح بزيارة جنوب أفريقيا ومنع خطوط الطيران البريطانية من العبور والهبوط في مطار الخرطوم للتزود بالوقود. وقام السودان بإصدار جوازات سفر ووثائق سفر سودانية يسمح لصاحبه التنقل به لكل دول العالم عدا إسرائيل وجنوب أفريقيا لأعضاء حركات التحرر، وعلى سبيل سبيل المثال المناضل نيلسون مانديلا عام 1962م حينما استقبل رسمياً في زيارة كانت سرية. ويقول اللواء عمر: ü أبدى السودان تعاوناً وقاد مبادرات دبلوماسية تجاه الوضع في جنوب أفريقيا حيث استضاف مؤتمر التضامن الآسيوي الأفريقي من أجل تحرير جنوب أفريقيا الذي عقد بالخرطوم في الفترة ما بين 18-20 يناير 1969م إبان فترة رئيس الوزراء محمد أحمد محجوب. ü فزيارة المناضل الأفريقي نيلسون مانديلا 1962م تم الدعم فيها مادياً ومعنوياً، ثم تم النصح فيها للمؤتمر الأفريقي لينظم الكفاح المسلح ضد النظام العنصري والقضاء عليه، ولقد تم اعتقال المناضل مانديلا مباشرة بعد عودته من الخرطوم ولم يخرج إلا في عام 1990م ليصبح أول رئيس لجنوب أفريقيا المتحررة من التفرقة العنصرية.. ويحيلنا التقرير الذي أعدته دار الوثائق العسكرية لما ورد في جريدة الرأي العام يوم الجمعة 14/8/1962م في الصفحة الأولى خبر مفاده شعب جنوب أفريقيا يشيد بجهود الرئيس إبراهيم عبود في قضية مانديلا.. تم إرسال برقية من دار السلام للخرطوم وتقول البرقية: (تلقى ليلة أمس صاحب المعالي الرئيس الفريق إبراهيم عبود البرقية التالية من المستر أوليفر تامبو نائب رئيس حزب المؤتمر الوطني في جنوب أفريقيا، ذكر المستر تامبو في برقيته أن شعب جنوب أفريقيا قد قابل بمزيد من الرضا الموقف الحازم لمعالي الرئيس في قضية اعتقال السلطات الحاكمة في جنوب أفريقيا للزعيم مانديلا).. وجاء في البرقية أن مساندتكم القوية لقضية إطلاق سراح الزعيم مانديلا مصدر إلهام قوي لشعب جنوب أفريقيا في معركته من أجل القضاء على التفرقة العنصرية البغيضة. وصلت البرقية ليلة أمس من دار السلام وقد نقلت فوراً إلى صاحب المعالي الرئيس في أركويت.. مما يذكر أن المستر مانديلا الزعيم الأفريقي المعتقل والمستر أوليفر تامبو كانا قد زارا السودان قبل عدة أشهر وأدليا بحديث سياسي مهم للرأي العام تناقلته الإذاعات ووكالات الأنباء، وكان المستر مانديلا والمستر تامبو قد زارا السودان في ذلك الوقت زيارة رسمية وأجريا مباحثات مع معالي السيد أحمد خير وزير الخارجية حول قضية جنوب أفريقيا. وحينما أدلي المستر مانديلا بحديثه للرأي العام طلب من مندوبنا تأجيل نشره حتى يصل إلى دار السلام ويعود من هناك لأنه كان في مهمة سرية وعاجلة، وهنالك عدد كبير من عملاء حكومة فيرود في نيروبي وهي أول مطار تهبط فيه الطائرة من الخرطوم إلى دار السلام عاصمة تنجانيقا، وقد تم فعلاً نشر التحقيق مع مانديلا بعد عودته من دار السلام إلى الخرطوم في طريقه إلى أكرا.