في البدء كان تصريحاً عابراً ولكنه معبر في سياق زمانه ومكانه، أما الزمان فقد استبق مؤتمر الحركة الاسلامية ومؤتمر الوطني (الذي لم ينعقد بعد) وبالطبع استبق الإجراءات الاقتصادية وما صاحبها من أحداث مزلزلة، وجاء عقب موجات الربيع العربي باسقاطاتها العميقة على المشهد الإقليمي، وأما المكان فقد كان في الدوحة التي صار لها أثر نافذ في تشكيل القرار الوطني. مثلما صار لها صوت وصيت لإسهامها في ترتيبات السلام باقليم دارفور وإعادة تسويق النظام عبر محور جديد بأدوار ورؤى جديدة تجسدت في أمثولة إسقاط جماهيرية العقيد أو دكتاتورية اللون الأخضر كما يحلو لي،والموقف من القضية السورية الذي انقلب فيما بعد إلى نقيضه دون كسب مصالح محسوبة أو مباديء ثابتة !! قال الرئيس بلغة مباشرة : خلاص كفاية (25) عاماً في الحكم أكثر من كافية .!قلت حينها هذا إعلان لحركة كفاية الرئاسية!! المقابلة لكفاية المصرية التي إنتهى نضالها المتراكم إلى القذف بالفرعون من أريكة الحكم إلى قاع السجن(كم كنت ساذجاً حينها)..! كنت أُلمّح إلى الحس الإحترازي والاستشعار المبكر لخطر التغيير الذي تلوح إرهاصاته وتتراءى أبعاده من أبعاد . فالتغيير الذي لا يطرق الأبواب- عادة- بل يقتلعها إقتلاعاً ، آثر أن يرسل علامات مجيئه تلطفاً بهذا الشعب الصابر حدَّ الغيظ وتنبيهاً لنخبه وأطيافه وفعالياته المنخرطة في لعبة الموازنات .!ولأن الرئيس البشير بات زاهداً في حمل عبء الرئاسة، وارتداء عباءة الحكم في ظل تضاغط المسؤوليات وقلة المعينات، وتناقص الإمكانات، فإن التحليلات المتعمقة ذهبت إلى فرضية ترجيح إنتقال سلس على مستوى الفاعلين الرئيسيين ببنية الدولة... وقد أشار إلى ذلك صراحة قطبي المهدي أحد أقطاب المؤتمر الوطني حين وصف الانقاذ بأنها دواء فقد صلاحيته، وأن أي تغيير للرئيس ينبغي أن يستتبعه تغيير لنائبيه ولكبينة القيادة التي عملت لجانبه طيلة حكمه... وطفقت الأقلام من بعد ذلك تدندن بكلمة الاصلاح والمصالحة مستفيدة من ضرورة الظرف وظرف الضرورة ، تزامن ذلك كله مع موجات إصلاحية عنيفة كانت قد ضربت مراكز القيادة في الأحزاب.. أعتبر أشدها ما تجسد في مذكرات الاصلاحيين الاسلاميين من لدن (الألف الأخ) مرورًا بلقاءات السائحون وما أفرزته من حراك أزعج المحافظين ومرجئة القرن الواحد وعشرين، وعلى صعيد الكتابات الصحفية تواصل سيل الأفكار والمبادرات ، وكان من أهم ما كتب في هذا الإطار مقال الواثق كمير تحت عنوان «الكرة في ملعب الرئيس..تفكك الدولة السودانية هو السيناريو الأكثر ترجيحا». وقد حوى إشارات هادية تخرج السودان من مآزقه المتكاثرة .. ويبدو أن متخذي القرار قد نفذوا إلى عمق الرسالة المختبئة وراء الأحرف والعبارات.. والتي جاء حسين خوجلي فيما بعد ليجليها على الملأ حين قال مخاطباً الرئيس عبر برنامجه المشاهد جداً : كمّل جميلك تممو .!أي لا تبقي منهم من أحد .!ولو تعلقوا بأستار المحافظة على المكتسبات، وتعللوا بحجم التآمر الزاحف من كل حدب وصوب .! حتى الآن يبدو التغيير الجزئي الذي تم ناقصاً ومفتقراً لما بعده ، ورغم أنه أتى على عناصر مهمة في سياق الفعل السياسي وصنع القرار وإدارة موازين القوى داخل منظومة السلطة وفي إطار المجتمع السياسي المحالف والمنافس ، المؤيد والمناويء في آنٍ معاً . فمن السذاجة بمكان أن نسلّم بخروج السوبر تنظيم بقضه وقضيضه من المشهد برمته . على هذا النحو الخافت ودون أدنى تبرير مقنع .! وهو الذي كان له نصيب الأسد في مجيء الإنقاذ إبتداء ومن ثم الحفاظ عليها واستبقائها في ظل تقلب أحوال الطقس السياسي العالمي .. قد يقول قائل ما حدث هو ثمرة لعمل حثيث داخل مؤسسات الحزب، وأن التغيير الوزاري الذي ذهب بجيل المخضرمين الذين شهدوا العشرية الأولى والثانية، وشهدوا كل الوقائع المترعة بالكثير من الهزائم والعزائم ليس سوى رأس الجليد والموجة الأولى ستتبعها حتماً أمواج هادرة، فالعلاقة بين الماء والرمل فيها السلب وفيها الايجاب فيها الهدم وفيها البناء، وأن هذا الديالكتيك الموحي هو الذي سيقيم القادم على وجه أكثر عدلاً ومرونةً واتزاناً..وقد قال لي أحدهم : ما بال بعض عقلاء النوع الانساني ممن لا يستترون من العقل بسجف، ولا يبنون إفتراضاتهم إلا على سخف، يصيحون فينا ليل نهار أن أصلحوا أمركم. وغيروا الوجوه التي استطال بها العهد وفتر منها العزم، ولما شرعنا في إجراء التغيير على الوجه الذي يلبي حاجاتنا التنظيمية، فإذا بهم يقللون من أثره ويظنون به الظنون!! قلت له : ثمة أزمة نفسية بين أطراف اللعبة السياسية في السودان وهي في جوهرها أزمة متوهمة، وبكثير من الثقة والحوار ستتبخر في الفراغ العريض.! وأردفت قائلاً : أما كان حرياً بكم أن تدشنوا هذا التغيّير عبر التأسيس لمرحلة مغايرة يحتشد فيها خطاب الاصلاح الداخلي الذي يعمد إلى رفد السياسات والمؤسسات بقيم الرشد ومحاربة الفساد،أما كان حرياً بكم بسط الحريات. ولو على الحد الأدنى، وتحجيم الإجراءات المعوّقة للنشاط المدني، أما كان حرياً بكم وضع برامج فاعلة بآماد مضروبة الميقات، وطرائق محددة لتخفيف غلواء الفقر ومحاصرة آثاره السالبة، بعيداً عن طلاقة الوعود بدعم الشرائح الضعيفة التي تصدح بها ألسنة المنابر الرسمية (المسؤولة)! .إلى متى تنظرون إلى مشكلات السودان على نحو تبعيضي ؟ والأزمة في جوهرها كلية وكامنة في مركز القرار.. لقد مضى الجنوب وارتكس إلى حمأة العنف من جديد، وها هي دارفور تستحيل إلى دار حرب وعراك في غير معترك .! واشتعلت جنوب كردفان وتناسل الخراب في ربوعها الخلاّبة!! وتفجرت الأوضاع في النيل الأزرق، وعاد الشرق إلى تذمره وسخطه القديم ! ولم يتبق في جسد السودان مكاناً ليس به طعنة رمح أو رمية سهم ، ويخشى عليه من الهلاك الكلي، لولا عزم وحزم وبصارة وتدبير ستعيد كل شيء إلى نصابه القويم. التغيير الدراماتيكي الذي تم ينم عن دبيب الصحو في جسد الحكومة المتثاقل و يحمل في طياته الإمكان الكامن لتغيير أكثر قيمة وإضافة لرصيد الحسنات المتضائل وأنفى لرصيد السيئات المتضاعف .. ولأن السياسة فن الممكن فإنها ستظل محكومة بمعايير الواقع وحدود ما هو كائن لا ما ينبغي أن يكون .! وعليه فإن الإسترسال مع أحلام اليقظة التي يمارسها بعض الرومانتكيين هو ضرب من الارتواء من السراب .. لكن ليس أقل من النظر في الآفاق والآيات وفي رحاب الأنفس لنعلم أن اللحاق بركب الدول القادمة من ناصية التخلف إلى محراب التقدم أمر لا يحتاج إلا إلى إرادة حقيقية، وإلى إدارة واعية، وإلى جرأة تستحث الخطى صوب الاصلاح المتدرج .. ودوننا نماذج الصعود في نمور آسيا الوثابة التي قطعت أشواطا مديدة في مضمار التقدم ،ودوننا فهود إفريقيا المتسارعة برغم شح الموارد .. أما التنين الصيني والفيل الهندي فقصصهما أكبر من مقدرة الحرف على البوح بكل الأسرار المعلنة .! إلى شباب الوطن : إنفضوا عنكم غبار اليأس والاحباط ..! يكفي هذه العقود المضاعة والطاقات المهدرة ..! هلموا إلى بناء أحلامكم في تربة الواقع .. إملئوا الحقول قمحاً ووعدًا وتمني .. لا تكترثوا لفساد التقاوي وتقاوي الفساد .. وأبذروا في أنفسكم نبات التقوى .. فالتقوى هاهنا .. التقوى هاهنا .. وتزينوا زيّا وذاتاً بلباس التقوى .. ولباس التقوى ذلك خير .! سووا صفوفكم وسدوا الفرج إن الله لا ينظر إلى الصف المعوج .. إستوووووا ..! يرحمكم الله .!