مرحباً بصوت الضمير النوبي. الطبيب الذي يداوي في وجداننا الجروح! مرحباًَ بالشاعر، المغني، الكاتب، الرسام، الباحث، بل الفنان المطبوع مكي إبن السكوت والمحس ودنقلا! بطلته السمحة هبط علينا وكنت في الحين أمضغ مرارة الحسرة والحيرة وأنا أستمع لأحد أبناء المحس(هكذا سمى نفسه) وهو يصرخ في (الراكوبة:(«انا رطاني» ولا فائدة من إحياء التراث!! قلت في نفسي :حتماًَ أنا أمام أحد ضحايا أمراض(احتقار الذات) وهؤلاء هم من يلعب عليهم الطاهر ساتي وهو ينعي الكيان النوبي! قبل أن ينقذني مكي كنت أتساءل: من أي فج خرب جاء هذا الشخص؟ هل هذا الشخص«ظاهرة»..؟ لنرفع الفاتحة علي هذا(الكيان التاريخي) العصي على الأختراق ؛ أم أن (العولمة) زادت الأضاءة على المجتمع لتظهر البقع السوداء القديمة؟؟ الواضح أنه ضحية تجربة تربوية لم يكن المربي فيها صاحب ثقة بالنفس، أو أن بناءه الوجداني تم في فوضى!لهذا لايتورع في القول . ما الذي دفعه ليستعجل حتفه بهذه الطريقة، ويحكم على نفسه بالقول(أنا رطاني).. مشت فيه سكاكين حسين خوجلي، والطاهر ساتي وبقية الشامتين بسهولة شديدة. خلفياته ضعيفة في كل شيء إلا الجرأة على الهلاك، ولكنه مؤشر خطر لوجود السوس الذي بدأ ينخر النفسية النوبية تحت وطأة احتقار الذات..الخ وأنا غارق في خضم هذه الوساوس السوداء، هبط علينا الأستاذ مكي على إدريس (مدير مركزالدراسات النوبية) علي أجنحة «الفيس بوك» طالباًَ التواصل: عندما رأيت عمامته المميزة، المترهلة اللفائف الى الأمام كمقدمة مركب في النيل النوبي، والمتحدية فوق الجبين كتاج رمسيس الثاني في معبد أبو سمبل.. انتشرت الأضواء في أرجاء ذهني وذهب عني الوباء الذي جلبه(الرطاني) ود المحس، وهكذا «جداد البيت طرد جداد الخلا»!! أنقذني مكي «حامل المسك النوبي»..أي والله انقذني هذا المبدع حارس كبريائنا.. وهو من يسمعنا اصوات امهاتنا، وهو من أدخل الفرح في بيوتنا: أي بيت لم تدخله(عديلة)؟عديلة الأغنية أو قل تلك الفتاة «الأيقونة»، رمز الوجدان النوبي الممزق بالغربة والسفر وأمراض الأجنة التراثية المعاقة، وقد رأينا نموذجاً للتو ! في«عديلة»اجتمعت: أنين السواقي، وظل الأشجار، وعذوبة مياه الأزيار، وحزن الفراق الجميل، ولوعة الوداع: تلك الفتاة النوبية وهي تجلس في مقعد اللوري السفري حملت معها الأرض والتاريخ وبذلك استحالت في نظر الشاعر الى «المرأة الوطن»، وهي هنا تشبه «عازة» خليل فرح. والفرق بينها وعديلة ليس كبيرًا، زوجها هو علي عبد اللطيف سيد أحمد، البطل القومي الدنقلاوي، والشاعر الذي خلدها هو خليل فرح إبن صاي، بين هذا الشاعر القومي ومكي علي إدريس شريط من النيل عرضه ربما مرمى حجر ،لا يتعدى عشرات الأمتار.. مكي في(عبري) والخليل من «جزيرة صاي»! لم يدخل هذا الشاعر في بيوتنا الفرح فحسب..! بل داوى جروحنا وثبَّّت هويتنا أمام أعاصير الثقافة، وهو يناجي عديلة: سماق مقوسا سلانق أونتي إركونكني إر ويكا مرتي المعنى : أين ذاهبة أنت ياعديلة؟؟ هل تعرفين سماءًا أوسع من سمائنا.. أو تملكين بلادًا أجمل من بلادنا؟؟! هذه الأغنية وحدت البنية الإيقاعية للأغنية النوبية، وهي في الأصل تثير أحاسيس انسانية شفافة مركبة، فيها الفرح والحزن وفيها لوعة الوداع ورجاء المراسلة. وعندما تتلامس هذه القيم يشتعل المتذوق ويعبر من خلال محاكاة ايقاعات الرقص والتصفيق. هذه البنية الإيقاعية ظلت مشتتة في الأجواء النوبية المختلفة : (الطار) في الشمال الأقصى، والطنمبور في الأواسط ، والدلوكة في الجنوب الأقصى.لهذا عندما حملت أعاصير العولمة للساحة السودانية الطرفية آلات موسيقية جديدة من نوع الوتر المكهرب والتي قدمت لأول مرة خدمات أوركسترا كاملة كالأرقون مثلاً:كانت أغنية«عديلة» جاهزة لروح العصر! وكانت بالفعل أنسب بضاعة يمكن أن تدخل بها الأغنية النوبية عصر العولمة ! هذا هو سبب انتشارها السريع مع التسعينات وبقاؤها عنصرًا موحدًا للمزاج الموسيقي النوبي. ولهذا السبب أيضاً استطاعت(عديلة)..أن تخترق الوعي السوداني العام. ظل غير الناطقين بالنوبية يرددونها في المدينة، وجبهات القتال، وفي الموبايل حتي الرئيس رقص على إيقاعها في عهد السيد طارق توفيق المعتمد السابق لحلفا الجديدة !! هكذا استطاع هذا الشاعر أن يلقي شيئاً في تيار الثقافة السودانية، فالعالمية لا تأتي إلا «بالمحلية» وأهم من يرى غير ذلك، وخاصة أولئك الذين لا يعرفون معنى التعصب ولا يفرقون بين (التعصب)المشروع الذي يقوم على التغني بالجمال الباقي للذات لرتق التمزق كما غنى وردي لإستقلال السودان. وبين التعصب المقيت الذي يقوم على حساب تصفية الكيانات الأخرى.. ما الذي يضير جاري إذا تحدثت عن نفسي، ومن أصلح داره أصلح الحي الذي يسكنه ، وهكذا لا ينصلح حال الوطن إلا باصلاح الهويات الجزئية . وهكذا بأريج عديلة تتضمخ أجواء ضواحي الخرطوم ليستمتع الناس بحفلات الشق النوبي من الكلاكلات رغم أنف الطاهر ساتي والسماعين له من أبناء النوبة المهزومة ! الذي يميز هذا الشاعر علي أقرانه الفنانين أنه إبن مناطق نوبية متنوعة. هذا الوعي التراثي الملون يدفعه ليلم شمل القرى النوبية المششتته: يناجي قري حلفا الغارقة ثم يربط بين قريتي «أرقين» في أقصى الشمال النوبي، وقرية «مشكيله» التي تنتظر مصيرها من الغرق في سد كجبار: يقول لها في قصيدة بالنوبية: مشكيله أرقين إسقي فأليق بجناني..!! المعنى: أيتها القرية التي تنتظر. الغرق بمياه كجبار، أسألى «أرقين» الحلفاوية.. فستخبرك اليقين!! ومعنى القصيدة في خلاصته: من يؤيد فكرة التهجير عليه أن يتأمل حال أهل حلفا وما آلت إليه في أرض البطانة! هذا الكلام بالطبع لايروق لأنصار الحكومة والمنظمات النوبية الرسمية . هذه المنظمات التي تعترف أنها (شبكات) ! دورها الأساسي اسكات مثل هذه الأصوات وتهميش المعارضة التي يصفونها بالشيوعية، وسد المنافذ التي فتحها قانون هزيل كتب لإقناع خواجات حقوق الإنسان بأن هنالك حقوق تكوين منظمات وجمعيات ،وإن لم يفعلوا ذاك لإنقطع عنهم الدعم الحكومي.ومن المفارقات المضحكة أن تقام تجمعات ثقافية ومهرجانات في غياب مكي علي إدريس . من الغباء أن تطلب من فنان حقيقي مطبوع أن يمارس ثقافة بشروط حكومة أو تجار ، ومن الغباء أيضاً التصنيف السياسي الحزبي لفنان ، معلوم أن الفنان لايحتويه إطار تنظيمي حتى ولو ادعى تحت ضغط الحاجة ميولاً سياسياً. هذه(الطفولة) مفيدة جداً لمن يستثمرها ولكن دون تبني ، مثل هذه المواهب لاتستطيع أن تعيش وتتنفس خارج أجواء(الحرية)! لهذا ود علي إدريس مغضوب عليه حكومياً هذا الشاعر يؤلف أيضاً باللغة العربية حتى تخاله أنه لا يعرف لغة غيرها.. يصرخ في وجه الموظفين الحكوميين وسماسرة السدود في كجبار: أغرقوا مركب لقمان ü وقرص الشمس غرة واستباح اليم بوهين ü وآثار المقرة ثم جاءوا للدفوفة ü إنها سادس مرةوهو يسجل في وعي (التاريخ) هذه المفارقة تذكرت المؤرخ إبن خلدون وهو يصف في كتابه «المقدمة» كيف تم تدمير العروش النوبية على يد الأعراب! ...لله درك يامكاوي (خادم العمدة وأمير شعراء النوبة) كم نحن في حاجة الى من ينقذنا في عصر الانحطاط!