تحية للقراء الكرام.. و آه من الترحال من جريدة إلى أخرى..! الترحال بين زوايا الصحف السيارة يشبه إلى حد كبير شكول ليالي أبي الطيب المتنبئ.. قبل سنوات طويلة دخلت على الأستاذ «توفيق جاويش» في صحيفة السياسة التي كانت تصدر في الخرطوم على أيام الديمقراطية الثالثة.. كان جاويش، عليه الرحمة، رجلاً بهيجاً لا يكف عن اختراع الفرح.. أول ما فعله معي أنه اختصر اسمي الرباعي فى كلمتين، وأعاد صياغة خبري الهزيل في لحظات.. ذلك الرجل جاويش استعدل مزاجي وبهرني سياقه، و أوقفني عند سدرة منتهاي عندما قال لي ساخراً: «وإنت جايينا شايل اسمك رباعي، إنت قايل الجريدة دي دفتر شيكات»..!؟ حدث هذا في العام 1987، ومن يومها وأنا استحصد من هذه الصحف الكثيرة التي مررت بها، كثيراً من الكوميديا، وبعض صداقات حقيقية، وأخرى لزجة و زائفة، وكثيراً من المرارت أيضاً..! ولكن دعك من هذا.. هذه الدنيا الدائرية ساقتني دروبها لأكون حاضراً شباب الحصاحيصا في ذلك الزمان، كانوا أكبر مني في كل شيء ، لكنني أدمنتهم.. أدمنت مؤانسة شتلي و هاشم كرار وفيصل محمد صالح، ومعهم عرفت «مسألة» الغالي، و حواجزالنحاس، والنجيب والكباشي، ومريموف وبنت الشيخ، وصالح وزكريا وعادل، والمحطات الصغيرة لعثمان عابدين، إلخ.. ولولا تلك الأنثى الفاتكة التي استعلنت في الأفق مثل نيازك العهد القديم، لتبدلت أشياء كثيرة، ولما زحفت الغربة عليَّ، ولا وخط الشيب جدرارياتي، وربما أبداً ً لم تدق مزيكة الإنقاذ..! هكذا، كل محطة من محطات العمر، منعطف خطير، وهكذا، لا تستدرك من الأمر ما مسحت عليه أنامل الزمن.. اليوم أنا في «آخر لحظة»، و بالأمس كنت في «أجراس الحرية» وغداً بظهر الغيب.. توجست من العودة إلى هذه الصحف الورقية، ولكن هل يصلح مثلي في هذا العمر لامتهان حرفة أخرى غير الكتابة..؟ فكرت في الماضي «فكان مثل جبل ضربت خيمتي عنده وفي الصباح قلعت الأوتاد وأسرجت بعيري، وواصلت رحلتي».. وفكرت في الغد «فتخيله عقلي جبلاً آخر، أكبر حجماً، سأبيت عنده ليلة أو ليلتين، ثم أواصل الرحلة»..! مهنة الصحافة مهنة شاقة، لكن جحافل الشباب من ورائنا ينغرسون فيها، والحياة لا تتوقف.. الكثير من الصحفيين خارج السودان يقضون حياتهم المهنية عاملين داخل مؤسسة إعلامية واحدة ، لكن في السودان لا يكاد الصحفي يستقر في صحيفة أو مؤسسة واحدة لأن المؤسسة هنا ترتبط بمناخ سياسي واقتصادي سريع التحول.. وأبلغ دليل من الراهن السياسي على عكننة المناخ، عودة الدكتور حسن الترابي مرة أخرى، و بقوة إلى داخل الجسد الإنقاذي.. و لا يختلف اثنان في أن للترابي سحره وتأثيره البالغ على نظام الإنقاذ حين خرج في المفاصلة إن صح سفر الخروج .. كذلك لا يختلف اثنان، على أن عودته أيضاً لها ثمن كبير، ربما دفعه المؤتمر الوطني مقدماً في عملية التغيير الأخيرة بإزاحة التلاميذ الكبار لأجل حضور الشيخ خالياً من تعقيدات تجربة السنوات الخوالي.. أو ربما عاد الشيخ إلى مجلسه عودة طبيعية، مستشعراً كارثة فشل إخوانه في إدارة الشأن المصري بعد زوال مجد الغريم حسني مبارك.. أي الاحتمالين، إن كان صحيحاً، فمن الممكن الادعاء بأن شيخ حسن قد يتساكن تلامذته، على الأقل حتى انصرام سحابة هذا العام.. أما إن كان لعودته هذه ثمن مُرتجي في اليوم أو في الغد، فليس لتلامذة الشيخ الأعزاء داخل المؤتمر الوطني، إلا أن «يشرطهم» الضحك..!