كرسي اليونسكو: كانت سعادتي كبيرة عندما حضرت ورشة العمل التي أقامها كرسي اليونسكو للأخلاقيات البيولوجية، كلية الطب جامعة الخرطوم ، 13مارس /2014م، لقد شعرت بأنني والحمد لله نجحت جداً فيما أبشر به، فالاهتمام بالأخلاقيات هو اهتمام بالدين وبالقيم الروحية السامية، وعندما يكون الحديث عن الأخلاقيات البيولوجية، أخلاقيات الأطباء الصيادلة، أساتذة العلوم، فإننا نكون بهذا قد وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح، ونصبح معاً شركاء في نشر ثقافة أخلاقيات المهنة، وكل مهنة لها أخلاقياتها، ولها أسرارها وطموحها ورؤياها، ومهنة البيولوجيا طباً وصيدلة وعناية بالمريض هي مهنة إنسانية شريفة، لها ضوابطها الشريفة، ووسائلها المقدسة. وأريد أن أذكر هنا بقصة القابلتين اللتين كانتا في أرض مصر، واستدعاهما الحاكم الطاغية، وطلب منهما أن تقتلا كل ذكر لإمرأة يهودية تلد، مع استبقاء كل أنثى، وكان هذا يعني أن يختفي الذكور من أبناء يعقوب، ويكثر الإناث، وبهذا يفقدون الأمل في الحرية وفي العيش السعيد، ولكن القابلتين اعتذرتا بأن المرأة اليهودية قوية وتلد دون قابلة، ورفضتا بأدب ودبلوماسية أن يشتركا في جريمة الطاغية، وهنا يقول سفرالخروج: «وكلم ملك مصر قابلتي العبرانيات اللتين اسم إحداهما شفرة واسم الأخرى فوعة، وقال: حينما تولدان العبرانيات وتنظرانهن على الكراسي، إن كان أبناء فاقتلاه، وإن كانت بنتاً فتحيا، ولكن القابلتين خافتا الله ولم تفعلا كما كلمهما ملك مصر، بل استحيتا الأولاد، فدعا ملك مصر القابلتين وقال لهما: لماذا فعلتما هذا الأمر واستحييتما الأولاد، فقالت القابلتان لفرعون: إن النساء العبرانيات لسن كالمصريات، فإنهن قويات يلدن قبل أن تأتيهن القابلة، فأحسن الله إلى القابلتين، ونما الشعب وكثر جدا، وكان إذ خافت القابلتان الله أنه صنع لهما بيوتاً، ثم أمر فرعون جميع شعبه قائلاً: «كل ابن يولد تطرحونه في النهر، لكن كل بنت تستحيونها» الخروج ( 1 :15 -22 ) . ورشة العمل: لقد كانت الورشة كلها اتجاه واضح نحو ثقافة الأخلاقيات البيولوجية، وهذه نفسها حقوق إنسان، وهنا كان للدكتور أحمد المفتي موقعه المطلوب والذي هو أحد أحلامه، لأن الإهتمام بالأخلاقيات اهتمام بحقوق الإنسان، بل أيضاً بحقوق الحيوان الذي تجرى عليه التجارب، وقد تقدم السودان في هذا المضمار، ليس في حقوق الإنسان فحسب، إنما أيضاً فيما يقدمه المجلس الطبي من ضوابط أخلاقيات مهنة الطب طباً وصيدلة وتمريضا، وهنا كان للبروفيسور الزين كرّار دوره وحديثه، ويظل المجلس الطبي منذ البرفيسور عمر التوم أول رئيس للمجلس الطبي حتى الآن واعياً ويقظاً، وأذكر هنا أيضاً محاولة برفيسور أحمد عبد العزيز في كتابه الممتاز فقه الطبابة، حيث قدم دراسة عن الأخلاق البيولوجية، وعن الإلتزام بالأخلاقيات التي وضعها القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، وهكذا يكون فقه الطبابة. بحث الأب: قدم الأب فيلوثاوس فرج كلمته معلناً سعادته بهذا الكرسي الجديد، كرسي الأخلاقيات البيولوجية، فهو دليل نجاح مهمة خادم الدين، وطالب أن تكون هناك توعية حول نشر ثقافة الأخلاقيات البيولوجية، وأن يكون للطلاب مشاركة كبيرة فيها، حتى تتم التربية الأخلاقية المطلوبة، وقد همس بروفيسور عبد الرحمن التوم الرئيس الأسبق للمجلس الطبي أن الرسول الكريم كان عنده طبيب خاص، وكان هذا الطبيب مسيحياً، وكان موضع معزة وإكرام عند الرسول الكريم، وقال الأب في كلمته أنه يفتخر بأنه قبطي وأنه حفيد الفراعنة، وهم أول من اهتم بالطب، فلقد مارس أمحتب الطب في عهد الأسرة الثالثة منذ ثلاثة ألآف عام قبل الميلاد، وأن التفسير التطبيقي للكتاب المقدس يذكر أن الفراعنة كتبوا الروشتات، وخطة العمليات الجراحية على ورق البردي منذ عام 1700 قبل الميلاد، وأنه قبل هذا بثمانمائة عام إكتشف الفراعنة ورق البردي للكتابة، وأن الطب عند الفراعنة نشأ في أحضان الدين، وكان الكاهن طبيباً، والطبيب كاهناً، وهذا يعطي لمهنة الطب قدسية روحية عالية، وقد كانت هناك مدرسة للطب في الإسكندرية عام 300 قبل الميلاد. وتحدث الأب عن السيد المسيح الطبيب الشافي لكل الأمراض، والذي وجد علاجاً للأمراض المستعصية، وكانت معجزة السيد المسيح هي معجزة الطب، وكان يتقدم ليلمسه مرضى كثيرون فينالوا الشفاء من لمسة فقط، وهذا ما جاء في الكتاب المقدس:- - (و كان يسوع يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم و يكرز ببشارة الملكوت و يشفي كل مرض و كل ضعف في الشعب) متى 4: 23 ) - (و طلبوا اليه أن يلمسوا هدب ثوبه فقط فجميع الذين لمسوه نالوا الشفاء( متى 14: 36) -(فالجموع إذ علموا تبعوه فقبلهم و كلمهم عن ملكوت الله و المحتاجون الى الشفاء شفاهم( لوقا 9 :11 ) (إذ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، وَرَسُولًا إِلَىü بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ üأَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِü وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىü بِإِذْنِ اللَّهِü وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْü إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ( آل عمران45 ،49 وكان لوقا البشير صاحب وكاتب إنجيل لوقا سنة 60م طبيباً، وقد كان هذا واضحاً من تعبيراته الطبية الدقيقة، التي تحدث فيها عن نازفة الدم، وقال عنها أنها لم تقدر أن تشفي (و إمراة بنزف دم منذ اثنتي عشرة سنة و قد انفقت كل معيشتها للاطباء و لم تقدر أن تشفى من أحد) ( لوقا 8: 43)، بينما مرقس البشير قال عنها إنها تصير إلى حال أردأ (و إمرأة بنزف دم منذ اثنتي عشرة سنة)، وقد تألمت كثيراً من أطباء كثيرين وانفقت كل ما عندها ولم تنتفع شيئاً بل صارت الى حال اردأ )مرقس 5 : 25 -26 ) وقد ذكر بولس الرسول أن لوقا كان طبيباً (يسلم عليكم لوقا الطبيب الحبيب و ديماس) ( كولوس 4 : 14) ، وخاطب السيد المسيح الناس قائلاً : لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى (فاذهبوا وتعلموا ما هو إني أريد رحمة لا ذبيحة لأني لم آت لادعوا ابرارا بل خطاة إلى التوبة) ( متى 9 :12 )، وقال أهل الناصرة التي عاش فيها طفلاً: أيها الطبيب أشف نفسك، «فقال لهم على كل حال تقولون لي هذا المثل أيها الطبيب اشفي نفسك، كم سمعنا أنه جرى في كفرناحوم فافعل ذلك هنا أيضاً في وطنك» (لوقا 4 :23)، وقد كان السيد المسيح يعالج الأمراض النفسية والروحية، كما الأمراض الجسدية، بل لقد أقام السيد المسيح الموتى في معجزات ثلاث، إقامة إبنة يايرس وإبن أرملة نايين، وإقامة لعازر بعد أربعة أيام منذ موته. وعندما تحدث السيد المسيح عن مثل السامري الصالح، وضع أساساً روحياً لإقامة المستشفيات، ونُزُل المرضى، وفي المثل أن السامري وضع على الجريح زيتاً وخمرا، الزيت للرضوض، والخمر لتنظيف الجروح، والفندق صار هو أول مستشفى لعلاج المرضى، ويقول المثل : « فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: » إِنْسَانٌ كَانَ نَازِلاً مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَرِيحَا، فَوَقَعَ بَيْنَ لُصُوصٍ، فَعَرَّوْهُ وَجَرَّحُوهُ، وَمَضَوْا وَتَرَكُوهُ بَيْنَ حَيٍّ وَمَيْتٍ، فَعَرَضَ أَنَّ كَاهِنًا نَزَلَ فِي تِلْكَ الطَّرِيقِ، فَرَآهُ وَجَازَ مُقَابِلَهُ ، وَكَذلِكَ لاَوِيٌّ أَيْضًا، إِذْ صَارَ عِنْدَ الْمَكَانِ جَاءَ وَنَظَرَ وَجَازَ مُقَابِلَهُ، وَلكِنَّ سَامِرِيًّا مُسَافِرًا جَاءَ إِلَيْهِ، وَلَمَّا رَآهُ تَحَنَّنَ، فَتَقَدَّمَ وَضَمَدَ جِرَاحَاتِهِ، وَصَبَّ عَلَيْهَا زَيْتًا وَخَمْرًا، وَأَرْكَبَهُ عَلَى دَابَّتِهِ، وَأَتَى بِهِ إِلَى فُنْدُق وَاعْتَنَى بِهِ، وَفِي الْغَدِ لَمَّا مَضَى أَخْرَجَ دِينَارَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا لِصَاحِبِ الْفُنْدُقِ، وَقَالَ لَهُ: اعْتَنِ بِهِ، وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ أَكْثَرَ فَعِنْدَ رُجُوعِي أُوفِيكَ، فَأَيَّ هؤُلاَءِ الثَّلاَثَةِ تَرَى صَارَ قَرِيبًا لِلَّذِي وَقَعَ بَيْنَ اللُّصُوصِ؟« فَقَالَ: »الَّذِي صَنَعَ مَعَهُ الرَّحْمَةَ«. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: (اذْهَبْ أَنْتَ أَيْضًا وَاصْنَعْ هكَذَا». (لوقا 10 : 30 ، 37 ) . والطبيب يدعى حكيماً، والحكمة هنا مطلوبة جداً في التعامل مع المريض، وإذا كان السيد المسيح طبيباً مداوياً فإن كل طبيب ينبغي أن يكون مسيحياً مقدساً مداويات، فإن كل طبيب ينبغي أن يكون مسيحياً مقدساً طاهراً عطوفاً حنوناً، والأطباء ملائكة رحمة لهم ومشتعر وأخلاق وسلوك الملائكة. ولقد كان الخلفاء الحكام المسلمين قد استفادوا بالأطباء من المسيحيين العرب، وكانوا أطباء فى قصور كل أمير مؤمنين، وكان طالب الطب المسيحي يدرس اللاهوت أولاً، ويقدم له اللاهوت القيم الروحية التي يمارس بها مهنة الطب، والموضوع واسع جداً يحتاج إلى المزيد من الدراسة، ونشكر الله أن لنا في السودان كرسياً للأخلاقيات البيولوجية، نرجو له كل تقدم وازدهار، وأملنا كبير في نشاط البروفيسور محمد أحمد الشيخ ، الذي يخدم بأمانة وشفافية، هذا الكرسي المهم الذي سوف يكرس في المجتمع ثقافة سلام، لمجتمعنا السوداني المبارك.