رحمك الله... لقد لبثت فينا زمناً طويلاً تنثر الفرح.. الفنان النوبي صالح محمد موسى (ول ولى) الذي رحل عنا بالأمس هو فنان المهجرين في حلفا الجديدة. كان قبل التهجير يمثل أقوى رمز تراثي وهو يتنقل بين قرى الضفاف، وكان بعد التهجير شاعر الكيان النوبي في أرض المهجر. قدم الكثير من الأغنيات في المستوى القومي في الداخل والخارج منذ منتصف الخمسينات. وهو من جيل الفنان الراحل محمد وردي، ولدا في أوقات متقاربة وانطلقا في وقت واحد، حتى خلفيتهما المزاجية شبه متشابهة وخاصة في زاوية التعبير عن الذات «الكبرياء الساحق» الفرق في أن الأستاذ وردي ركب موجة ( العربية) وبقي ول ولى في دائرته المحلية. المرحوم صالح ول ولى من مواليد 1935م، لديه محاولات غير موفقة في الالتحاق بالأزهر الشريف، كانت لديه ميولاً صوفية على طريقة شيوخ الملاماتية ولكن دوره في فن الغناء كان الغالب!! بدأ مشواره الفني من قرية اشكيت (شمال وادي حلفا) عام 1954م ثم سجل للإذاعة السودانية في أم درمان عام 1957م. غنى في داخل السودان وخارجه ونال على ذلك جوائز تقديرية كثيرة ويذكر أن له أغاني في مكتبة اليونسكو والدول الاسكندينافية وتسجيلات في الإذاعات العربية وتلفزيون السعودية والكويت ومصر. فنان مغني كان رصيده في الخارج ما حكيناه، إذن كيف كانت صورته في وجدان جيل من المهجرين النوبيين؟!! مذاقات ول ولي: إذا اختلف اثنان من هذا الجيل، المؤكد الذي لا خلاف عليه بينهما هو أنه حاز على الأبوة الفنية بين المهجرين بالتقادم، فهو مخضرم بين جيلين، ظل منذ الخمسينيات يتصدى لمهمة صياغة القيم في المجتمع النوبي بطريقته الخاصة.قاوم أعاصير صدمة الهجرة التي تجتاح مجتمع المهجرين حتى الآن لهذا، استطاع أن يحتل ركناً في وجدان جيل بأكمله!. إذا كنت من «جيلنا» ولم تطربك كلمات هذا الفنان أو يشجيك لحنه فأنت لا تستطيع أن تفلت من تلك المتعة التاريخية التي تستيقظ فيك: فهو رمز لعصر ولى لا تملك نسيانه ، خاصة إذا تذوقته كلاً متكاملاً: بجلبابه الأبيض الواسع الأكمام وبلفائف عمامته الحلزونية المترهلة للأمام وبوثباته التي تسبق إيقاعات «الطار» السريعة الراقصة. حتى تلك البحة التي تحمل الكلمات من حنجرته المتعبة لا تستطيع أن تنساها؛ بكل هذه الأشياء بنى لنفسه خصوصية تعب خلفها المقلدون!! هكذا أصبح جزءاً من مذاقات النشأة لأجيال التهجير وحشر نفسه بين أشواقها التاريخية. نتيجة لدوره هذا كان الذين لا يؤمنون به وبفنه يضطرون للاستعانة به في حفلاتهم الراقصة استجابة لأذواق الآخرين!! المرأة في فنه: المرأة في فنه لا تمثل دائماً موضوعاً رئيسياً للحب! ان أشار إليها لا تعدو إشارته أكثر من (فتح شهية) لا يلبث أن يتجاوزها لقضايا أخرى في أغلب صورها معاركه الاجتماعية! لا يبدو أنه كان على وفاق مع الآخرين.. فكأنما (الآخر) في عرفه عقبة! إلا إذا أصبح من عناصر تجربته الفنية. بمعني آخر: يتغني بمحاسن الآخرين إذا أصبحوا «تاريخاً» كما في أغنية «نوبلو» أما إذا كان «الآخر» يمثل الحاضر فلا يذكر من سيرته سوى المظالم والمثالب كما سنرى! في أغنيات ما بعد التهجير كان دور المرأة قد انحسر تماماً وذلك ربما لتقدمه في السن أو لميوله الدينية أو لظهور آثار التهجير على المجتمع وسهولة تناولها، وربما هنا استفاد كثيراً من تلك السوداوية التي كانت تحكم نظرته للمجتمع ، فيمكن أن يقال إنها تسببت في أن تكتسب المرأة جرعات من الرمزية، فمثلاً إذا أراد أن يصب غضبه على المجتمع لسبب ما، أو أن يعبر عن مظالمه، يقوم بتشبيه ذاته بفتاة جميلة مسكينة فرضوا عليها أن تنقل الماء ليشرب أناس لا يستحقون مثل هذه التضحيات!! فيقول لها كأنما يلوم نفسه. يا أيتها المسكينة من أجل منْ أنت تعبة!! (ناى استاهلن تعبانه)!!عمل مؤخراً في إعادة أغنياته القديمة أو فقرات منها، يعيد إنتاجها مع إضافات تحمل بصمات العصر. قد تظهر آثار هذه الحبكة بوضوح في أغنية مثل (مسكين يا ملاك الجنة). رغم الضعف الواضح في الاستعانة بمفردات (عربية) غير مروضة محلياً يستطيع أن يشوش على المتلقي بالقفزات بين المواضيع المختلفة حتى يخترق وجدانه.استطيع أن أقول بأنني بعد سلسلة طويلة من التأويلات استطعت أن أصل إلى تلك العلاقة التي ربطت محبوبته في هذه «الأغنية» بالمؤامرات التي كانت تحاك ضده في المساجد! ربما قفزاته تلك أوصلتنا إلى قصة واحدة هي: أنه يطارد ذاته من خلال كيان تاريخي مرتبط ببلاد النوبة. لا نستطيع أن نعتمد على ترجمة ناجعة والشعر لا يترجم ولكن عندما يتساءل في احدى أغانيه: (ماذا سأقول لمن يسألني؟!!) لا نستطيع أن تستبين جنس المخاطب :هل هو امرأة أم كياناً آخر؟ولكن قصة هذه التساؤلات هي أنه يلوم المحبوب عندما بدأت عليه علامات التعب في منتصف المشوار وقرر أن يعود بعد أن كان قد أبدى إصراراً شديداً على تكملة المشوار. يكرر لومه أيتراجع بعد كل الذي قاله؟ ثم يصف دموعه التي استحالت إلى قطرات من الدم ويقول بإنه يخشي أن يكتشف أمر بكائه فهو لا يملك جواباً لمن يسأله!! الواضح أن موضوع الحب لم يكن امرأة بعينها وإن اتخذها رمزاً ولكن كانت ذاته هو!! أي أنه في هذه الأغنية بدأ ينعي تاريخه وقريحته الفنية التي بدأت تنضب مع تقدمه في العمر! وفي تلك الفترة كان يتجرع آثار أزمة المهجرين مع قومه في حلفا الجديدة وكان أكثرها مرارة تساقط المفردات التي اختزنها في ذاكرته وأغنياته! آثار التهجير على فنه: التغيرات العنيفة والمتلاحقة التي طرأت على مجتمع المهجرين في قرى حلفا الجديدة، كانت أسرع وأكبر بكثير من قدرات فنان مرهون لتراثه وتاريخه، لهذا، في كل أغانيه يشكو مر الشكوى من أنه لم يعد يفهم شيئاً مما يحدث: الكلمات حوله ما أكثر من ضجيج: في أغنية (ككلودة) يستعين بطائر خرافي ليصف معاني صعبة تستعصى على الفهم لأنها تولد من ذاكرة خالية من المفردات أو هي مفردات فقدت دلالاتها لغياب التربة التي نبتت فيها! رغم معاناته المتلاحقة تلك حاول أحياناً أن يجد حلاً في الفن التجاري وقد كان أحياناً ينجح.... خبرته الطويلة في امتهان فن الغناء جعلت ذاكرته الجمالية غنية بالمفردات لهذا ربما نجح كثيراً في أن يوارى سوءة العاطفة الغائبة أو المواقف غير الصادقة عبر التلاعب بالكلمات الخفيفة التي تساعد الآلات الوترية الكهربائية، مثل كلمة سيو وهي كلمة تعني «الرمل» ولكنها سريعة الذوبان عند التكرار وخاصة إذا كان السامع مستغرق في لحن الجيتار، الحصيلة أقرب الى الصفر في حساب الفوائد الفنية ولكن الذي يريد أن يتمايل بالرقص أو صاحب الحفل الذي يريد ساعات من الأضواء وكفى كان يعود ببعض الرضا!! أما تلك الكلمات الغريبة التي سقطت بفعل الزمن أو صدمة «الهجرة» كانت ضرورية لاستثارة الدهشة في أذواق صدئة ولكنها بطبيعة الحال كانت غير مفهومة لدى الأجيال الجديدة ككلمة «ككلودة» أو صور سقطت في الحياة الجديدة كصورة المحبوب وهي تملأ الزير بماء النيل أو الاستعانة بصورة الساقية من الذاكرة القديمة أو وصف المراكب الشراعية وهي تتهادى في عرض البحر وهي تحمل على ظهرها المحبوب!!الذين عابوا عليه استعماله لمفردات عربية أو حتى مصطلحات نوبية غريبة كانوا لا يدركون المعادلة الصعبة التي كان مجبراً عليها!! الانحطاط كان حتمياً ومنتظراً في أذواق المهجرين عامة، لهذا من الظلم أن نطالبه بالحفاظ على مفردات تساقطت مع غياب التربة التي نبتت فيها!! فلا يستطيع وحده أن يصارع عواصف المخاض هذه! وبقي أن ننوه أن قدر الفن التجاري أن ينحدر مع انحطاط الأذواق! ولكن لا يجب أن ننسى إن الدور الحقيقي للفن الراقي هو في صقل الأذواق المتدحرجة إلى الهاوية بجرعات من الروح يمنحها للكلمات التي تقتلها الأسواق. وللفنان صالح ول ولى بصمات هنا وهناك.. الخلاصة أنه كان فناناً برمزيته التاريخية إذا قصر في فنه في الحلقة القادمة سنرى كيف حمل وحده أزمة التهجير النوبي وكيف كان مصلحاً اجتماعياً.