قام مشروع حلفا الجديدة الزراعي لتسكين المهاجرين من وادي حلفا 1964م بسبب مياه السد العالي، ثم في المرحلة الثانية تم تسكين العرب الرحل أصحاب المنطقة الأصليين. ولكن سنوات (الرخاء الكاذب) التي مرت مع حقبة الستينيات والسبعينيات جعلت المنطقة بؤرة جذب قبلي. بالإضافة للحلفاويين والعرب اجتمعت قبائل الشرق وغرب السودان. حج إليها أبناء المناطق الأخرى لتصير المنطقة وعاء لهوية سودانية كادت أن تقدم صورة زاهية لنموذج متجانس!! وكدت بدوري أن اسميها (حضارة حلفا الجديدة)، وهي حضارة مشتركة الفضل فيها لجميع أبناء القبائل التي تكون مجتمع حلفا الجديدة !! حضارة سادتها قبائل شرق السودان وغرب البطانة والحلفاويين وأبناء غرب السودان. هذه الحضارة كادت أن تكتمل وفي لحظة من لحظات تفاعلها الخلاق قدم روائياً من أبناء غرب السودان هو الأستاذ عبد العزيز بركة ساكن، مؤلف روايات: جنقو مسامير الأرض امرأة من كمبو كديس مسيح دارفور. اخرج من حياة «الكنابي» ثقافة تقرأ الآن على المستوى القومي! قرأتها كلها ولدي رأي فيها، ولكنني كنت فخورًا بها، لأنها من ثقافة حضارة (حلفا الجديدة)! كتبت هذه الروايات في أجواء «كنابي» خشم القربة! .. ولكن المؤسف أن هذه الحضارة المشتركة لن تعيش طويلاً فيما يبدو، لأن سنوات الرخاء الثلاثين التي بدأت بها حلفا قد انقطع أثرها.. في تلك الفترة الذهبية كان هنالك ما يكفي من التسامح والمصالح المشتركة بين المزارعين الأصليين والوافدين وقد شهدنا عقود شراكات كثيرة في الحواشات، كان صمام الأمان لذاك التعايش الخلاق هو (السلام الاجتماعي ) الذي عُرِّف به النوبيون في كل مكان. وهذه النزعة هي أعمق تجليات أية حضارة في أي مجتمع إنساني ، ونقول بوضوح لولا هذا (النفس النوبي) التاريخي لما تعايشت تلك القبائل بالصورة التي بقيت عليها حتى الآن! ولكن مع بداية الثمانينيات اشتد الجفاف والتصحر على السودان، وكان غرب السودان أكثر الجهات تأثراً، ثم جاءت عليها آثار الانهيار الاقتصادي في السودان نتيجة لسياسات حكومات عسكرية، ومن بعدهم ظهرت الانتهازية السياسية مع أحزاب الحقب الديمقراطية. تأزم الجوع في غرب السودان حتى انتقلت الأزمة إلى مرحلة الصراعات القبلية، وبعدها جرت الدماء وانفجرت (دارفور)إلى حرب أهلية ابتلعت مئات الآلاف، وبلغت تداعيات الأزمة رئيس الدولة الذي خرج منها مطلوباً لدى المحكمة الدولية! في الفترة التي ظلت فيها الأزمة تتفاعل كانت منطقة حلفا الجديدة أكثر حاضنة أمينة للفارين من تلك الحرب من أبناء الغرب، وهؤلاء أيضاً يبدو عليهم أنهم أهل سلام ولولا ذلك لبقوا هناك يتعاركون! كان لهم مطلق الخيار : من أراد منهم أن يعيش في القرية ترك لرغبته. ومن أراد منهم أن يبقى منعزلاً في تجمعات القطاطي رخيصة الثمن أيضاً ترك له الخيار. هذه القطاطي المعدودة مع مرور الزمن اتسعت لمجموعات كبيرة أطلقوا عليها (الكنابي). حتى في هذه المرحلة لم تكن هناك مشكلة مزمنة رغم بعض التفلتات وممارسة عادات وثقافات لم يكن متفق عليها. تسامح المجتمع الحلفاوي مع حادث ذبح معلم مدرسة أخرج من الفصل وذبح أمام تلاميذه دون ذنب جناه ونسي المجتمع أيضاً سائق عربة تم ذبحه في قارعة الطريق لأنه دهس أحد أبناء الكنابي عن طريق الخطأ!! إذن بدأت المشكلة تدخل في سكة الأزمة مع اشتداد وتيرة الحرب في دارفور وازدياد معدل الفقر وانهيار المشروع والانتهازية السياسية من قبل حزب الحكومة وأحزاب المعارضة. معلوم أن المؤتمر الوطني فقد القدرة على فعل أي شيء في إدارة شؤون البلاد، أما أحزاب الطائفية فقد سعت من قبل إلى تعويض النقص في دوائرها بتثبيت أنصارها في مدينة حلفا الجديدة وفي مناطق أخرى على حساب السكان الأصليين. فعلت كل هذه بحجة المواطنة والحقوق الدستورية ولا غبار على هذه الحجة إن تم تسكين الوافدين طبقاً لمتطلبات الفرص المتاحة دون أن يكون على أصحاب الحقوق القانونية الثابتة منذ عام 1962م. هذه الانتهازية تبلغ مداها عند استغلال هذا (السلام النوبي) لتمرير رغبات الوافدين دون مراعاة لموقف أصحاب الحق المتضررين. هذا الأمر من زاوية أخرى يعطي إشارات خاطئة لأصحاب (الكنابي) ليتوسعوا بالقوة، وقد فعلوا ! نتيجة للقراءة الخاطئة هذه إن كانت من قبل الحكومة أو الوافدين اتسعت الكنابي حتى خنقت تماماً قرى مثل : القرية (1)، وبالأمس القريب بدأ الهجوم على حرم ومزارع القرية (2) بعشرات المسلحين الذين فاقت أعدادهم أعداد رجال القرية بست أو سبع مرات! عملية الهجوم والمقاومة مشروحة في موقع (مجموعة سره غرب) في الانترنت!! المسؤولون يتهربون طبقاً لإفادات المجموعة المكلفة بفتح بلاغ. المعتمد كان (خارج الشبكة) عند بداية الصدام،والحزب الحاكم «شايل الريموت» وقيادات الحزب الحاكم أصبح عينهم على الانتخابات المقبلة، يقدمون (تحت الطاولة) وعوداً متناقضة، أما موظفي المحليات لا يمانعون في استخراج شهادات مزدوجة، يمكن أن يتحاجج بها الطرفان! المهم هناك ما يشبه الاستقطاب الانتخابي قد بدأ بين الأحزاب! ونحن هنا (نحذر) لو أريقت دماء لن يحدث تراجع: والحال هو كما وصفه الشاعر: أرى تحت الرماد وميض نار فإن الحرب أولها كلام وإن النار بالعودين تزكى وأخشى أن يكون لها ضرام ****** المصيبة ستكون كبيرة إذا راهن هؤلاء على (السلام النوبي) هذا السلام سينقلب إلى توحش إذا أريقت دماء كما حدث في شمال أسوان، بعد مقتل الصبية الثلاثة من قبل الصعايدة ، تحول النوبي الذي لا يقتل دجاجة إلى وحش يذبح أربعة عشر نفساً في ساعة واحدة!!هذا الجيل من النوبيين ليسوا كآبائهم، لم تعد في حياتهم ما كان يتمتع به آباؤهم . لم تعد هناك طبيعة هادئة ولا حياة منسابة، ولا شعوب متحضرة ، قابليتهم للتوحش، أحس بها الآن!! وهم يجهزون لجولات قادمة، واستقطاب قبلي. وهناك من الجيل الجديد من يسخر من الاحتكام للقانون والحكومة، ويسخر من (الحضارة) المزعومة..ويعتبرونها خوفاً وجباًن من أهلهم ليس إلا!! وهناك الأخطر وهو أن طرفيَّ الصراع مقتنعون أن الحكومة لن تلتفت إليهم إلا بعد عملية مقاومة وصدام!! ولكن من يضمن أن لا تراق دماء..صدقوني ليس من الصعب أن تبقى مع المتوحشين والسلام النوبي أصبح الآن مصدر تساؤل، وهذه النفسية المتحضرة تبنى بقيم أخلاقية إذا انهارت لا تعود! ويجب أن لا ننسى مجدداً أن هذا (السلام النوبي) هو محور التعايش في حلفا الجديدة إذا استحال هؤلاء المسالمون إلى وحوش سينهار كل شيء! سياسات الحكومة المضللة التي تقوم على النفاق والوعود المزدوجة، وأيضاً الاستقطاب القبلي، الذي تشارك فيه الأحزاب ستدفع المنطقة إلى دارفور جديدة وهي صوملة لا يقبلها عاقل.. على معتمدية حلفا الجديدة وحكومة الولاية أن تلاحق هذه المشاكل في المهد بالفرز القانوني والكلام الواضح في رابعة النهار قبل أن تفلت من اليد!!