أتابع باهتمام التدابير والإجراءات المتعلقة بقيام مؤتمر قومي لمناقشة قضايا الإعلام في البلاد ، ويشكر للقائمين على الأمر جهودهم في هذا الاتجاه ، وخاصة الأخ الكريم والكادر النشط الاستاذ «ياسر يوسف» والذي ظل منذ فترة يشكل مع الاستاذ «قبيس أحمد المصطفى» حضوراً مريحاً وإطلالة جذابة للدولة والحزب في مجال الإعلام. فالمتلقي السوداني ملول بطبعه ، ويسأم من كثرة الطلة التي (مسخت) خلق الله ، ويحب التغيير في الوجوه والمنهج والتناول، وفي الذاكرة العربية تجربة صوت العرب الفاشلة ، والمذيع(أحمد سعيد) صاحب اللغة العنترية التي لم تقتل ذبابة على حد قول نزار قباني ، وكيف استبدلت لاحقاً بخط أكثر صدقاً ومعقولية وواقعية أيام وزير الإعلام المصري السابق الدكتور عبدالقادر حاتم عشية ملحمة العبور الخالدة في اكتوبر 1973م.. الفكرة السائدة في عالمنا العربي أن مهمة الإعلام الحكومي هي التضليل والتطبيل ولىّ عنق الحقيقة ، لهذا ظل دور الناطق الرسمي للحكومة في فترات عديدة من مراحل الحكم الوطني في السودان هو دور شكارتها دلاكتها ، أو القرد في عين أمه غزال وفي أحيانٍ كثيرةٍ لا يصدقه الناس ويلجئون إلى مصادر أخرى خارجية في الغالب لمعرفة حقيقة ما يجرى في بلادهم . هذه المقدمة مجرد خاطرة عفوية لكن الموضوع الأساسي لحلقة هذا الأسبوع هو المؤتمر القومي الجامع المزمع عقده قريباً للتداول حول القضايا الإعلامية رغم شمولية العنوان واتساع نطاقه ، إلا أنه من المرجح يكون التركيز على حرية الإعلام ، كشرط من شروط الممارسة الديمقراطية السليمة وتهيئة الأجواء للمصالحة الوطنية والوفاق السياسي بين القوى والكيانات المناصرة والمعارضة. ومهمة المؤتمر ليست مستحيلة وإن كانت ليست بالسهلة لكن الأمر يعتمد على صدق الإرادة السياسية والقناعة الحقيقة بجدوى المؤتمر والحاجة إليه ، والرغبة والجدية في الوصول إلى نتائج إيجابية ومتوافق عليها مع تقديم التنازلات من هنا وهناك ولا يكون الهدف كما أشار أحد الصحفيين من ضيوف(شذى عبدالعال) هو تشتيت الكرة بعيداً كسباً للوقت. النقطة الجوهرية كيفية المواءمة بين الحرية والمسؤولية وبين الحق الشخصي والعام، وبين المصلحة العليا والأمن القومي، والصحة العامة والأخلاق من جهة، والحرية الشخصية من جهة أخرى ، بين حرية (الطاهر ساتي) في أن يقول رأيه بكل صراحة ودون خوف أو وجل ، وبين حق المجتمع في أن تحمى قيمه ومقدراته. محاولة التوفيق هذه ليست هماً سودانياً محضاً لكنها عقدة واجهتها كل المجتمعات الإنسانية المتمدنة. ولقد ظللت استمع إلى قياديين معارضين دأبوا في الآونة الأخيرة على ترديد مقولة(إلغاء القوانين المقيدة للحريات) ونحن نتفق بأنه وفي ظل دولة القانون والمؤسسات لا ينبغي أن تكون هناك قوانين مقيدة للحريات، لكننا نتوقف عند جزئيتين مهمتين هما : الأولى هي كلمة (إلغاء) والثانية كلمة(مقيدة). بالنسبة للإلغاء المطالب به فهو يعني إلغاء قانون الصحافة، وقانون الأمن الوطني، وقانون الأحزاب السياسية، وقانون الانتخابات ، بل وبعض مواد الدستور فهل هذا هو الذي يريده هؤلاء القياديين ، هل يريدون ألا تكون لنا قوانين تنظم هذه المجالات الحيوية؟ الإجابة بالقطع لا : فرجل في قامة «فاروق أبو عيسى» أو الباشمهندس«صديق يوسف» لا يمكن أن يطالب بفراغ قانوني!!!! لكن المؤكد أن الذي يسعون إليه ومعهم قطاع عريض من القوى السياسية والفكرية ، هو(إلغاء النصوص المقيدة للحريات) في هذه القوانين، ونحن نتفق معهم في هذا الشأن، لكن إلغاء هذه القوانين كلها، وبالجملة ليس منطقياً ولا عملياً لأن النصوص المعيبة قد تكون محصورة في مواد قليلة مقدور عليها فلماذا نلغي القانون كله صالحه وطالحه، لماذا لا نعزل العضو المريض من الجسم السليم بدلاً من قتل الجسم كله.النقطة الثانية هي عبارة(المقيدة للحريات) وهنا نواجه مشكلة في اللغة والتعبير، لأن أي حرية في الدنيا يجب أن تقيد وإلا تحولت إلى فوضى، وكافة المواثيق الدولية تجيز تقييد الحريات لكن بقيود موضوعية معقولة في مجتمع ديمقراطي حماية للدولة والأمة، وليس للحزب أو الحكومة. إذن المطلوب ليس هو إلغاء النصوص المقيدة بل إلغاء (النصوص التي تنتقص من الحريات التي منحها الدستور) إذ ليس مسموحاً به أن يأخذ القانون باليسار مع أعطاه الدستور باليمين ، لقد درج المشرِّع القانوني على استخدام عبارات مثل (وفق القانون) ، أو «كما ينظمه القانون» وهذا هو مكمن الخلل وموضع الخطأ ، لسبب بسيط هو- أنك لا تستطيع أن تضع نصاً دستورياً يعارض نفسه الأمر الذي يشكل صعوبة حقيقة لدى المحاكم خاصة الدستورية عند تفسير هذه النصوص ويفتح الباب للتأويل المغرض الذي يفرغ الدستور من محتواه. لقد كان لأستاذنا الراحل العالم الجليل مولانا «خلف الله الرشيد» طيب الله ثراه رؤية في هذا الشأن وهي استخدام عبارة( ((due process of law وتعني «وفق التدابير القانونية السليمة» ونواصل في الأسبوع القادم إن شاء الله.