ثمة فارق كبير بين الشيء في حقيقته وكما يبدو لنا، هذه الفرضية تمثل الأساس الجوهري لفلسفة «كانط» لكنها كذلك تمثل حقيقة حاضرة في كل حدث وموقف.. فالسياسة التي هي فن الممكن في عرف ممارسيها ومهنة الأوغاد كما يحلو لبعضهم تُحاكم دائماً بمعيار الأفضليات والمثاليات.. مع أن أشهر فلاسفة السياسة يقولون بملء فيهم أننا في حل من قيود القيم والأخلاق.. وأن المصلحة المجرّدة هي مدار الفعل السياسي وعلته الغائية التي يدور معها وجوداً وعدماً، لذا فإن النقد المنطلق من ناصية الأخلاق والمرتوي بالروح المعيارية لا يعدو أن يكون أكثر من مشاغبة في غير مكانها وزمانها، قد يفرح هذا القول بعض أصدقائي من دعاة الواقعية المباشرة التي تتعامل مع السياسة بمنطق الحسابات والتماس القضايا في أرض الواقع وتحت أطباقه المتراكمة ذات المنطق الذي كان يعتمده عمر بن أبي ربيعة في مجال العشق حين نعى على الاسلاف إنفاق جهدهم وطاقتهم في الطواف حول الحمى دون ورودها وتلمس العشق في السماء عوض الأرض.. هذه المفارقة كانت حاضرة في لحظة الخلافة عند محطة سقيفة بني ساعدة التي مثلت في أعلى مراتبها تسخير النص لخدمة الواقع وقلب الجدلية رأساً على عقب.. ربما لم يؤثر هذا المسلك على نمط الحكم حينها فقد ظل متسماً بالرشد وتوخي الانتصاف والعدل والقسمة بالسوية سوى بعض الممارسات الشاذة التي لا تتسق مع السياق العام لكن هذا المنهج أسهم فيما بعد في تقسيم الأمة وتبديد طاقاتها في النزاع والاعتراك في غير معترك، فأستخدمت النصوص سلاحاً ورميت الروايات المتباينة في وجه الواقع أشباحاً، وأدار الساسة لعبتهم بذكاء ومكر، وعزفوا على كل الأوتار من حينها تضاءلت فرص التعايش والتساكن والمواطنة واشتعل لهيب الصراع.. وليس أدل على ذلك من موقف معاوية بن أبي سفيان وهو الأقرب زماناً إلى نموذج الحكم الراشد حين قال لإبنة عثمان ابن عفان: (إن الناس أعطونا سلطاننا فأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، وأظهرنا لهم حلم تحته غضب فباعونا هذا بهذا، وبعناهم هذه بهذه، فإن نكثوا نكثّنا بهم ثم لا ندري أتكون الدائرة لنا أم علينا تمثل هذه القاعدة البنية المفاهيمية الخفية التي ترتب علاقة الحاكم بالمحكوم على الأقل في بيئات ما قبل الحداثة التي ما زالت ملازمة لنا في راهننا المعاش، وأخشى أن تتبعنا في مستقبلنا المنظور.. بعض مجتمعاتنا أفلتت من جاذبية الماضي وسحره، وتحللت من قيوده الحريرية الآسرة دون أن تلتحق بنماذج الحداثة، حيث ظلت عالقة في الفراغ.. فهي كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.. أما دعاة التقليد والإستمساك بالنماذج القديمة والرؤى القديمة والمناهج القديمة فهم ما زالوا يتعبدون خرائب الغابر دون مراعاة لذكاء السياق وسياق الذكاء.. فالتعلق بالقديم ليس منقصة في حد ذاته، هو يغدو منقصة فقط حين يحول دون إبصار مكاسب القادم.. ذات التعلق الزائف جعل دهاقنة التفكير في العصر الجاهلي تقول مقاومة لصدمة التصورات والمفاهيم والتعاليم والقيم التي أتى بها الإسلام (إنا وجدنا أباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) وتجعل بعضهم يتمثلون المقولة الشائعة والمثل الشرود (ليس في الإمكان أبدع مما كان). . أخطر شيء أن تتحول الفكرة إلى وثن .. والعبادات إلى طقوس.. والقيم إلى محض أعراف وعادات.. والمؤسسات إلى هياكل جوفاء.. والسياسة إلى خدائع ومؤامرات.. ! ما أحوجنا إلى ثورة مفاهيمية داخلية تستنطق إمكاناتنا التراثية وتستولد أبعادها من أبعاد.. علينا أن نتجه إلى حقولنا بعقولنا لا أن نستورد عقولاً وحقولاً من الخارج.. فنراكم الأزمات ونراكبها ظلمات بعضها فوق بعض.. أما آن لأنوار الفطنة أن تبدد ظلمات الفتنة.