في احتفال فوز الرئيس البشير عقب إعلان نتيجة الانتخابات الأخيرة أكد البشير في ليلة إعلان النتيجة بالمركز العام لحزب المؤتمر الوطني ان المعركة القادمة بعد الانتخابات هي معركة الوحدة، وقال (نحن على ثقة بان القاعدة الشعبية في الجنوب مع الوحدة). وهذه المقولة التى بشر بها الرئيس البشير شعب السودان ليست من باب التخمين وليست مجرد قراءة لمجريات الأمور في جنوبنا الحبيب، وإنما تأكدت له عملياً على ارض الواقع إبان زيارته للجنوب خلال حملته الانتخابية حيث تدافع أهل الجنوب لاستقباله عبر كرنفالات ومواكب حاشدة أكدت ان الوحدة الطوعية هي البطاقة الرابحة في استفتاء تقرير المصير مطلع يناير المقبل. ومن أكثر المتفائلين إلى المزيد من التفاؤل ان الأخ رئيس الجمهورية المنتخب قد وجه بتحويل الهيئة القومية لترشيحه قبيل وإبان الانتخابات الأخيرة إلى هيئة لدعم الوحدة، وهذا ما يعيد إلينا سيناريو جولات الرئيس إبان التعبئة للانتخابات وما وجده من ترحيب حار من قبل الإخوة الجنوبيين، ومن المؤكد ان ذلك ما سيحدث خلال الجولات المقبلة في الجنوب مما سيصب في خانة الترحيب بخيار الوحدة وترجيحها من خلال صناديق الاقتراع. ومن جانبها دعمت الهيئة المشار إليها (الهيئة الشعبية لدعم الوحدة) إلى إسكات الأصوات التى تنادي بالانفصال في شمال السودان وجنوبه حفاظاً على وحدة التراب والشعب، وقال رئيس الهيئة بروفيسور عبد الرحيم على احمد في مؤتمر صحفي ان السودان مواجه بالتفتيت والتشرذم وان انفصال الجنوب إذا ما حدث سيقود إلى انفصال مناطق أخرى، وأوضح ان الهيئة تعمل على التبصير بمخاطر الانفصال في الأوساط الشعبية والجنوبية والعمل على إنجاح هذا التواصل كهدف أساسي يحول دون الانفصال. مبيناً ان برنامج الهيئة يستهدف الجنوبيين في الجنوب والشمال وخارج السودان داعياً أهل الجنوب إلى نبذ الخوف من المناداة بالوحدة.ومن جانبه قال المدير التنفيذي للهيئة احمد عبد العزيز ان الفصل بين الشمال والجنوب اقرب للمستحيل لوجود كثير من التداخلات والعلاقات الاجتماعية بين الشمال والجنوب، موضحاً ان الحرب أساسا قامت من اجل تحقيق وحدة البلاد وليس من اجل انفصال الجنوب، ودعا إلى ضرورة الاهتمام بالجوانب الثقافية والاجتماعية بين أهل شقي البلاد والجلوس مع قادة المجتمع المدني خاصة الجنوبي لتقوية أواصر الوحدة. والواقع ان وحدة السودان هي ضمان لمصالح أهله في سبيل الحفاظ عليها، وتلك مسئولية وطنية وتاريخية لا ينبغي ان يتخلف عنها احد، بل إنها وحدة حتمية كما ذهب إلى ذلك مفكرنا الراحل الكبير الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد في مؤلفه الرفيع المستوى (السودان والمأزق التاريخي) حيث جاء فيه ان السودان ظل دائماً موحداً ومتماسكاً حتى قبل ان يتمظهر كقطر له دولة مركزية إذ ان أطرافه كانت دائماً مشدودة إلى وسطه بفعل عوامل لا فكاك منها. وذهب إلى شئ من ذلك الكاتب والأكاديمي المرموق بروفيسور الطيب زين العابدين ففي دراسة له يقول عن التعايش الاجتماعي بين أهل شطرى البلاد انه مهما قيل عن الاختلافات الكثيرة بين أهل الجنوب والشمال فى الدين والعرق والثقافة والتوجهات السياسية، ومهما قيل عن التراث الاستعماري الذى قفل الجنوب في وجه أهل الشمال وقفل الشمال في وجه أهل الجنوب وابقي الجنوب متخلفاً في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومهما قيل عن إخفاق الحكومات الوطنية في معالجة جذور المشكلة الجنوبية إلا ان الشعبين تعايشا جنباً إلى جنب في أريحية وجوار حسن في سائر مدن الشمال والجنوب في السكن وفى مجالات التجارة والصناعة والخدمات دون نزاعات عرقية أو دينية، وتجاورت المساجد والكنائس دون اعتداءات أو تشاحن واقبل المسلمون على المدارس المسيحية في الشمال دون حساسية حتى صار طلابها أغلبية منهم، وصحيح ان التعايش الاجتماعي لم يبلغ مداه المطلوب متأصلاً بنظرات عرقية تاريخية ولكنه يسير على الدوام في خط متطور إلى الأحسن والأفضل، وسيأتي اليوم الذى تزول فيه الفروق العرقية والاجتماعية طال الزمن أم قصر، ولا تقتصر النزعات العرقية الاستعلائية على أهل الشمال والجنوب، ولو قورن السودان بغيره من البلاد الأفريقية والعربية لبزها جميعاً في حسن التعايش والتواصل والتسامح بين الأعراق، وبسبب هذا التعايش الاجتماعي كان الجنوبيون لكما استعرت الحرب في مناطقهم وجدوا المأوى والملاذ الآمن لهم في الشمال. ويمكن القول ان الغفلة السياسية في قراءة عهود الحكم الوطني منذ الاستقلال لمطالب الجنوبيين قد أدت إلى أخطاء فادحة في التعامل مع القضية الجنوبية، ولكن ينبغي القول أيضا ان شعب الشمال قد هب منتفضاً في أكتوبر 1964م ضد حكم الرئيس عبود بسبب سياسته العسكرية في معالجة مشكلة الجنوب، وكانت أول مهمة للحكومة الانتقالية التى أعقبته الدعوة إلى مؤتمر المائدة المستديرة لحل مشكلة الجنوب سياسياً، وانتفض مرة أخرى ضد حكم الرئيس نميري بسبب تداعيات اندلاع الحرب الأهلية في الجنوب مرة ثانية بعد اتفاقية أديس أبابا للسلام، وكان أول نداء للمجلس العسكري الانتقالي بعد الانتفاضة برئاسة المشير عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب هو دعوة الحركة الشعبية للانضمام الى قوى الانتفاضة والمشاركة في الحكومة والتفاوض حول تحقيق السلام في البلاد، أما اتفاقية السلام الشامل في 2005م فقد أدت إلى السلام الماثل بين الشمال والجنوب الذى نتفيأ بظلاله الآن. وفى اعتقادنا ان بقاء وحدة السودان هي الضمان لمصالح أهله في الشمال والجنوب، ولذا ينبغي التمسك بها وبذل كل جهد في سبيل الحفاظ عليها، وهذه مسئولية وطنية وتاريخية لا ينبغي ان يتخلف عنها احد، وفى هذا الإطار تأتي سلسلة مقالاتنا هذي في (آخر لحظة) كمساهمة، وان صغرت، من اجل الحفاظ على وحدة السودان بصورة طوعية تقوم على حقوق المواطنة المتساوية وعلى التنمية العادلة المتوازنة، وذلك لان وحدة البلاد تعني السلام والتقدم والقوة من اجل الحاضر والمستقبل. (نواصل).