نحن من جيل لا تبلغ الأغنية عنده الكمال ما لم يعزف محمدية عزفاً منفرداً على آلة الكمان , في مقدمة الأغنية أو في وسطها , فتحتشد فينا متعة الترقب للحن القادم , وما أن (تدخل) الفرقة الموسيقية بأنغامها مكتملة , حتى تضج في دواخلنا أحاسيس الإنطلاق الجميل , و تسري فينا نشوة الطرب ؛ ثم نحس بأرواحنا خفيفة , و قد زالت عنها الكثافة و الضيق , فالروح ينعشها (السماع) كما يقول المتصوفة ؛ هذه نعمة الموسيقى , و هكذا كان محمدية ؛ من أساطين التطريب و من الذين يجلون النفوس بما أنعم الله به عليه من موهبة فريدة في تطويع الكمان .. و زاده قرباً للمستمعين و المشاهدين وجهه الصبوح , و إبتسامته المشرقة التي تضئ كلما جاد الكمان بنغمة خاصة إستدعتها أنامل محمدية الساحرة .. وضع بالأمس محمدية قوس الكمان جانباً و أشاح بوجهه عله يخفف وطأة الحزن على رفيق إستند إلى كتفه خمسين عاماً .. وضع محمدية القوس و مضى بعد أن برهن على أن النجومية في فن الغناء لا يحتكرها المطربون , و أن المجد يمكن أن ينقعد لعازف , مؤكداً قيمة التجويد و معلياً شأن الموهبة في أى مجال كانت . حزن عليه الكمان و قد يستعصي على غيره , فالأحياء و الأشياء على رباط روحي وثيق . و حزن محبو الموسيقى و الطرب الجميل .. ذهب محمدية و في معيته للدار التى لا ترقى إليها الأباطيل فرح نثره في حياته الدنيا . و لما صعدت روحه إلى عليين وجد فرحه المنثور و قد إستحال بساطاً أخضر , سار عليه محمدية بنفس مطمئنة , حتى إذا بلغ منتهى البساط و تأهب إلى درجة أعلى حيث الملأ الأعلى , صاح مناد بنبرة آمرة : قيام .. القادم محمدية . اللهم ارحمه , فقد كان حفياً بنا .. لم يضن علينا بما وهبته من موهبة نادرة , و لم يتكاسل عن مهمة راقية سخرته لها , فسارع إلى محمد وردي يضفي جمالاً إضافياً على مقدمة (الطير المهاجر) و هكذا فعل مع عثمان حسين في (الفراش الحائر) , و يبتسم لبشير عباس مجاوباً بالكمان المدهش العود الذي يحن , و قيل إن أنغام الناى ما هى إلا حنين إلى الشجرة التي إقتطع منها : يا ترى .. حجبوك من عيني ليه .. يا ترى ؟ .. سوف يبقى محمدية , و لن يحتجب .