٭ كان «داحس» حصان قيس بن زهير.. و«الغبراء» فرس حَمَل بن بدر.. تواضعا الرهان عليهما مائة من الأبل وكانت المسافة (مائة غلوة) وكان المضمار (أربعين يوماً).. فأجرياهما، وكانت في طرف (الغاية)- أي نهاية السباق أو الميس كما نقول- شعاب كثيرة، فأمر (حَمَل) جماعة من أصحابه أن يكمنوا في تلك الشعاب وقال لهم: إذا جاء (داحسْ) سابقاً فردوا وجهه كي تسبقه (الغبراء)، فلما أرسلوهما تقدمت (الغبراء) فقال حمل بن بدر لقيس: لقد سبقتك، فقال قيس رويداً حتى ترشح أعطاف الخيل- أي تتعرق- ويخرجان من الجِدد إلى الوعث.. فلما خرجا إلى الجِدد تقدم (داحس) وجاء إلى آخر الغاية وهو متقدماً، فخرج عليه اصحاب حمل وأفزعوه فجفل وتغير اتجاهه واسقط فارسه، فاتيحت الفرصة (للغبراء) بالتقدم لكسب السباق افتراءً وظلماً.. ثم عُرفت الحقيقة بعد ذلك، فحدث الخلاف بينهما وثارت الحرب بين (عبس وذبيان) في أيام الجاهلية- منتصف القرن السادس الميلادي- التي دامت أربعين عاماً، وبرز خلالها عنترة بن شداد (الفارس الأسود) بقدراته القتالية الفائقة، التي أهلته للاعتراف من جانب ابيه وإلحاقه بنسبه وتزويجه من ابنة عمه الفائقة الجمال (عبلة). ٭ تذكرت هذه القصة المشهورة في تاريخ الأدب العربي، وأنا اطالع القنوات الفضائية المصرية- «سي بي سي» و «أون تي ڤي»- التي استضافت متحدثين في برامج «التوك شو» حول الأوضاع العربية المضطربة جراء ما اسميه ب«الفتنة الكبرى الجديدة» التي ضربت المنطقة في أعقاب ثورات «الربيع العربي» من جهة والعدوان الاسرائيلي الجديد على غزة الذي مضى عليه حتى الآن أكثر من عشرين يوماً من جهة أخرى.. فأوقع آلاف القتلى والجرحى ودمر المنازل على رؤوس ساكنيها وخرب المنشآت العامة ولم يستثن حتى مدارس (الأنروا) الدولية التي لجأ إليها المدنيون اتقاءً لقصف المدافع والصواريخ. ٭ حرب «داحس والغبراء» كانت حرباً عبثية، بدأت ب«لعبة» التنافس بين اثنين من أصحاب الخيل من قبيلتي عبس وذبيان (أبناء العمومة) ودامت على مدى 04 عاماً بالتمام.. افتقر القوم خلالها إلى الحكمة والمنطق.. قبل أن يثوب زعماؤهم وعواقلهم إلى الرشد ويعقدوا الصلح.. ولكن بعد افناء ارواح كثيرة وعزيزة وإهدار الطاقات والموارد، بلا جدوى سوى توريث الأمة قصائد ملحمية في الفخر والهجاء والتنابذ الذي غذى موسوعة «الأدب العربي» الجاهلي.. وتلك هي «الجهالة» بعينها. ٭ نعيش اليوم- في عالمنا العربي، والأفريقي كذلك- واقعاً أشبه بذلك الذي عاشه العرب في القرن السادس الميلادي في ما يعرف اصطلاحاً ب«أيام العرب»- أي مواقعهم وحروباتهم- ولأسباب لا تقل عبثية وافتقاراً إلى الحكمة والرشد من أيام «داحس والغبراء»، يمكن أن نطلق عليها تشبيهاً ومجاراة «أيام داعش والغبراء».. ذلك التنظيم التكفيري الذي بزَّ كل المتطرفين الآخرين في غلوائه وتصدره السريع والمفاجيء لمشهد الأحداث.. باستيلائه على مناطق شاسعة وبلدات مهمة في العراق وسورية، تحت لواء «الدولة الاسلامية في الشام والعراق».. التي اتخذ اختصارها اسماً وعنواناً له «داعش».. ونصّب زعيمه «أبو بكر البغدادي» خليفة للمسلمين من «الموصل» في شمال العراق الأوسط.. واحتل مقاتلو التنظيم مواقع كثيرة ومهمة في خريطة العراق الاقتصادية- حقول نفط ومصاف وأكبر السدود على نهر الفرات- وبدأ يتاجر في النفط والمحروقات لتمويل انشطته عبر التهريب إلى تركيا، ليبيع برميل النفط الذي تبلغ قيمته 021 دولاراً بعشرين دولاراً أو أقل.. لتمويل انشطته المجنونة. ٭ فرع التنظيم أو امتداده في سوريا- بلاد الشام- يوجه حربه ضد قوى المعارضة والثورة السورية، ولا يفعل إلا أقل القليل- ربما من باب رفع العتب- ضد نظام بشار الذي افنى مئات الآلاف وشرد الملايين من السوريين ودمر الشجر والحجر في كل شبر من سوريا.. تحارب داعش كل فصائل الثورة السورية بما في ذلك الإخوان المسلمين وفرق الاسلام السياسي الأخرى «جبهة النصره أو الفتح أو الفرقان» ومسميات عديدة أخرى مستوحاة من التراث الاسلامي ما أنزل الله بها من سلطان.. يمكن أن نصطلح على تسميتها جميعاً ب«الغبراء» في مواجهة «داعش» على وزن امثولة «داحس والغبراء» التاريخية. ٭ وجدت نفسي وأنا اتابع ندوة «سي بي سي» في برنامج «صانع القرار» الذي يقدمه الاستاذ ضياء رشوان نقيب الصحافيين المصريين والذي استضاف ثلاثة أبرزهم الاستاذ «مختار نوح» محامي جماعة الإخوان المسلمين الأشهر.. الذي هجر الجماعة استنكاراً لأفكارها المتطرفة معلناً إنها اسست لكل هذه الفتنة الكبرى الجديدة أو «الفوضى الخلاقة» التي يعيشها العرب والمسلمون.. وجدت نفسي متفقاً مع ما ذهب إليه نوح من أن «داعش» هي سنام التطرف والتكفير الجديد الذي سيقضي على «حركة الإخوان المسلمين» ذاتها في كل مكان، كما يفعل الآن في سوريا، بعد أن ادعى أيلولة «خلافة المسلمين» لزعيمه وتنظيمه وأنه- بهذه الصفة- سيعتبر كل من يخالف أوامره ومناهجه ورؤيته «خارجاً على ولي الأمر» ومستحقاً للحرب والقتال وإقامة «الحد» عليه إن وقع في قبضة ولي الأمر أو رجاله.. فداعش هي «مُكفر المُكفّرين»!! ٭ وجدتني أيضاً متفقاً مع الاستاذ عبد الحليم قنديل، رئيس تحرير جريدة «صوت الأمة».. ولمن لا يعرف عبد الحليم قنديل فهو كان الصحافي الاجرأ في معارضة نظام حسني مبارك وأكثرهم تعرضاً للأذى.. إذ اختطفوه وضربوه وجردوه من ملابسه والقوا به خارج القاهرة عند أطراف الصحراء، حتى التقطه سائق سيارة مُحسن فستره واعاده إلى اهله.. في حديثه ل«أون تي ڤي» وتقييمه للعلاقات المصرية- الفلسطينية في ظل سيطرة حماس على قطاع غزة وتعاونها «المزعوم» مصرياً والمنفى «حمساوياً» مع العناصر التكفيرية التي تقاتل الجيش والشرطة المصرية في سيناء، قال قنديل إن الحركة تمثل رافداً عنيفاً أو امتداداً لجماعة «الإخوان» المصرية.. لكنه لا يستعرب ذلك.. إذ يذكر أن جذورها تعود بالأساس إلى تجنيد الشيخ حسن البنا لعدد من الأتباع في الأردنوفلسطين منذ بروز الجماعة في المسرح المصري ثلاثينيات واربعينيات القرن الماضي.. ورأى ضرورة عدم الخلط بين الموقف من الفلسطينيين كشعب ومن فلسطين «كقضية» ومن الموقف من حماس «كفصيل سياسي».. ودعا بين طيات حديثه حماس إلى استغلال قوتها وما توفر لها من دعم وقدرات لمغادرة محطة «التحزُّب والأدلجة» للانفتاح على القضية في بعدها القومي- الشامل «كقضية عرب ومسلمين وتحرر وطني» حتى يلتف حولها الجميع وتصبح مقبولة لدى النظام والشارع العربي في عمومه.. وذكر قادة حماس بحقيقة تاريخية مهمة.. هي أن حركة فتح قد بدأت بإثني عشر قائداً فلسطيناً كان أحد عشر منهم ينتمون إلى الإخوان المسلمين.. لكنها اكتشفت بسرعة أنها لتصبح قيادة لكل الفلسطينيين ولكي تجلب لنفسها دعماً عربياً وقومياً شاملاً كان لابد لها من أن تهجر التحزب والانحيازات الآيديولوجية الضيقة.. وبذا تحولت للفصيل الأكبر في منظمة التحرير الفلسطينية وغدت في ما بعد الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.. وفي هذا اذكر انه إبان ندبي بالاردن لمتابعة الشؤون الفلسطينية لصحيفة «الاتحاد» الاماراتية كان صديقنا الصحافي الاردني- الفلسطيني اللامع أحمد سلامة كثيراً ما يردد في جلساتنا قول الشهيد «أبو عمار»: ان كل فلسطيني هو «فتحاوي» حتى يثبت العكس. ٭ خرجت من الندوتين بخلاصة مهمة هي أن الظرف الراهن الذي شكلته حالة «الفوضى الخلاقة» أو «الفتنة الكبرى» لا يمكن تجاوزه إلا عبر (مؤتمر قمة للأمن القومي العربي).. يتفق خلاله زعماء الأمة الحريصون على مصالح دولهم وشعوبهم وحتى على استقرار نظمهم السياسية- على اختلاف توجهاتها- يتفقون على مواجهة حالة «داعش والغبراء».. عبر تمتين تحالفاتهم السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية.. و أن يكونوا على أهبة الاستعداد لبتر سرطان الفتنة والفوضى الخلاقة من جسد الأمة.. مستعينين في ذلك بكل ما تيسر لهم من موارد مادية وبشرية ومن علاقات دولية واقليمية.. وإلا فإن سرطان «داعش والغبراء» سينتشر باسرع مما يتوقعون.. ويضعف مناعة كل عضو في الجسد العربي- الأفريقي عبر الفوضى والاضطراب والتقسيم ويرفع من «قابليته للاستعمار» والسيطرة الأجنبية.